القساوة مكروهة من الجميع, إلا من القساة أنفسهم. وهي منفرة, ولها نتائج سيئة عديدة. وهي ضد الرحمة والرأفة والرقة, وضد الوداعة والاتضاع. ** ومن مظاهر القساوة: الكلمة القاسية, والنظرة القاسية, والمعاملة القاسية, والعقوبة القاسية, والتوبيخ القاسي, والعتاب القاسي, وغير ذلك, أي أن القلب القاسي يبسط قساوته علي تصرفاته. وقد تكون قساوته علي الجسد أو علي النفس أو كليهما وسنحاول في هذا المقال أن نطرق كل هذه الأمور, كما نبين أسباب القساوة ونتائجها. ** غالبا ماتكون القسوة ناتجة من استبداد القوي بالضعيف, والعمل علي قهره, في حين لايستطيع هذا المسكين أن يدافع عن نفسه, أو أن يقاوم بطش القوي! والعجيب أن هؤلاء القساة لايوبخهم ضميرهم, بل إنهم يعتبرون بطشهم دليلا علي مايتمتعون به من قدرة وقوة! أو أنه دليل علي سلطانهم وسيطرتهم. ** وقد تصدر القسوة في محيط الأسرة, من أب يخطيء في فهم أسلوب التربية السليمة, ويظن أن الحزم في تربية أبنائه يعني القسوة عليهم لكي يتأدبوا!! وهكذا يضيق عليهم في كل شيء, ولايعطي لشخصياتهم فرصة للنمو, بل علي العكس يجعلهم يعيشون في جو من الأوامر والنواهي, وفي لون من الحصر النفسي, مما يجعلهم يكرهون البيت الذي يعيش فيه هذا الأب العنيف القاسي, وقد يهربون من قسوته, ملتمسين صدرا حنونا وحضنا دافئا يحتويهم, وربما يقودهم ذلك الي الضياع أو الضلال. ** وربما تحدث هذه القسوة من زوج ضد زوجته, باعتباره رب البيت, وله سلطان علي الزوجة, فيهينها ولايعاملها برفق,ولا يشفق عليها في أي تقصير مهما كان غير مقصود, أو ما يعتبره هو تقصيرا حسب وجهة نظره.. وبهذا الوضع يختفي الحب من بيت الزوجية, وتحل محله السلطة والنفوذ. وقد تتهدد الحياة الزوجية بالتفكك, والزوج لايبالي. وكل مايهمه أن يحتفظ بمركزه كرجل البيت القوي, الذي كل شيء في نطاق قوته وسلطانه!! ** في بلاد الغرب ـ أمريكا مثلا ـ اذا قسا الرجل علي زوجته أو أولاده, أو إن ضرب أحدا منهم, بإمكانهم أن يطلبوا له البوليس تليفونيا, فيأتي ويقبض عليه ويبيت في الحبس, ويحقق معه. وفي بلاد الشرق يمكن أن تلجأ الزوجة الي القضاء وتطالب بالانفصال عن زوجها لسوء معاملاته.. غير أن كثيرا من النساء يقبلن القسوة من الزوج في صبر, باعتباره أبوا لأولاد, وعائل الأسرة وسند البيت, ويعرف الزوج هذه الحقيقة ويستمر في قسوته! ** وأحيانا يقسو أبو الأولاد من زوجته الأولي بسبب من زوجته الحالية التي توغر صدره ضدهم, لأنها لاتحبهم, وقد تصدر القسوة منها مباشرة ضد هؤلاء الصغار, ولذلك يكره الأبناء زوجة الأب ويصفونها بالقسوة. ** نفس الاستبداد بالضعفاء والقسوة عليهم, يحدث في مجال العمل, من مدير قاس ضد موظفين أو مرءوسيه. وذلك بحكم سلطانه عليهم, وشعوره بالقدرة علي التدخل في مصائرهم. وما أسهل أن يكتب تقارير شديدة ضد بعضهم تسيء اليه, وتستغل بتهديده بالخصم من مرتبه, بل والفصل من وظيفته. ولهذا مايشكو هؤلاء الموظفون من رئيسهم القاسي, أو يتملقونه في جبن حرصا منهم علي بقاء مصدر رزقهم! وخوفا من هذا الإذلال الذي يقاسونه من هذا القاسي, فيهبط مستوي نفسياتهم. ** الرجل النبيل أو الروحاني, يحاول باستمرار أن يخضع نفسه بتداريب من ضبط النفس, وبخاصة في حالة الغضب, أما الشخص القاسي فهدفه أن يخضع غيره له, اعتزازا منه بقوته, غير مبال بالمثاليات. ومسكين من يقع في يده, لهذا صدق داود النبي حينما قال أقع في يد الله, لأن مراحمه واسعة, ولاأقع في يد انسان. ** القسوة تحدث أحيانا في مجال العقوبة, حينما تكون فوق الاحتمال, وبعدم النظر الي ظروف المخطيء. وما أكثر مايحدث بطريق غير مباشر, أن تصيب العقوبة أيضا أسرة المخطيء. لأنه هو عائل الأسرة. ومعروف المثل اضرب الراعي, فتتشتت الرعية. لذلك يحسن أن ينظر المجتمع في معاقبة المخطئين إلي الحالة الاجتماعية وليس إلي مجرد الفرد! ** القسوة كذلك تأخذ مجالها في أجور العاملين, فالرجل الثري الذي يملك المصانع والشركات والمشروعات, وكذلك الغني الذي يحتكر السوق, اذا حدث من هذا أو ذاك أنه أعطي العاملين تحت يده أجورا زهيدة لاتكفي معيشتهم مع غلو الأسعار, فهذه بلا شك قسوة منه, وعدم مبالاة بحاجة الآخرين وعوزهم. هؤلاء مذلتهم تصرخ إلي الله, ويصرخ معها كل المهمشين في المجتمع الذين لايجدون رزقا ولا وظيفة. ** إن إذلال الناس قسوة لايرضاها الله ومن يسمع صراخ المسكين ولايستجيب, فإنه يصرخ أحيانا الي الله ولايستجاب. لأنه بالكيل الذي يكيل به للغير, يكال له أيضا. فليلتفت القساة الي أنفسهم, لئلا يأتي الوقت الذي فيه يجازيهم الله حسب أعمالهم. ** متي يلين إذن قلب القاسي ويتخلص من قسوته؟ ومتي يرحم غيره لكي يعامله الله بالرحمة؟ متي يعرف أن الفترة التي يمارس فيها القسوة علي الأرض هي فترة محدودة إذا ماقيست بالأبدية غير المحدودة. وفي نبل يشعر بآلام غيره. *** حسن أن يعيش الانسان سعيدا, ولكن إن أسعد غيره, فإنه يشعر بسعادة أكثر. فإن كانت في يده سلطة أو ثروة, ليته يستطيع أن يسعد بها الآخرين, فيدعون له أن يبقيه الله وينميه, ويطرح الخير كل الخير فيه. ** وإن كانت القسوة سببها السلطة أو محبة السيطرة, فإن السلطة لاتدوم, إنما هي اختبار للانسان كيف يستخدمها؟ هل لإسعاد غيره, أو لإثبات عظمته هو وقدرته علي إخضاع الغير؟! حقا إن في القسوة لونا من الكبرياء يجب أن يتخلص منه القلب النبيل الحريص علي أبديته, كذلك فإن القلب الحساس الذي يشعر بآلام الغير ويشفق عليهم, لايمكن أن يكون قاسيا في يوم ما, ضد أي أحد. نقلاً عن الأهرام
الأحد، 18 يناير 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق