مقدمــة:هذه الكلمات حصَّلتُها من قراءاتي في كتابات القديس أُغسطينوس والقديس يوحنا ذهبي الفم، ومن تأملاتي الخاصة، وقد دوَّنتها لنفسي, ولكن ما كدت أنتهي منها حتى دفعتني هذه الكلمات دفعاً أن أُقدِّمها لجميع الناس؛ ليشربوا، لعل المحبة تعود إلى قلوب الناس، فيقل الإثم، ويستنيروا بمعرفة الله.
أيها الباحثون عن الله كفُّوا واهدأوا، اتركوا العقل. فقد وجدنا شيئاً نستطيع أن نحسه بالقلب ونقول: هذا هو الله.
أحبوا، أحبوا، أحبوا فـ «كل مَن يحب فقد وُلِد من الله (من جديد) ويعرف الله. ومَن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة» (1يو 4: 8،7).
+++
المحبة تُشتهى
+ «إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة، تُحتَقَر احتقاراً» (نش 8: 7).
نماذج:
مصدر المحبة:
الشمس تُشرق كل يوم، والسماء تُمطر في أوانها، وخيرات الرب الإله تعُم المسكونة كلها. في كل صباح تتجدَّد علينا مراحمه، ومن جيل إلى جيل يتحدث الناس عن صلاح الله.
لقد أحبنا الله، أحبنا جميعاً. لم يُفرِّق في حبِّه بين أشرار وصالحين، أو بين أبرار وظالمين؛ بل جعل خيراته هذه لكل نفس حيَّة، الكلُّ يشبع من رضاه. وهكذا سيظل الأشرار والظالمون يتمتعون بخيرية الله وصلاحه مدى حياتهم في هذا الدهر. والله في هذا غير نادم، لأن في هذا كمال محبته: «أحبُّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين... فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كاملٌ» (مت 5: 44-48).
ولكن محبة الله لا يمكن أن تقف عند هذه الحدود المادية الضيقة، ويلزم أن يظهر سموها وجلالها في دائرة أعظم، لابد أن تتخطَّى الحدود المادية لتتخذ مجالها في العالم الآخر في الحياة الأبدية، فهذا يتناسب جداً مع اتساعها غير المحدود: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).
وهكذا نرى كيف امتدَّت المحبة نحو اتساعٍ يليق بها، وأَهَّلتنا للتمتُّع بخيرات أبدية وحياة خالدة مع مصدر هذه الخيرات.
إن كانت الدعوة للحياة الأبدية للتمتُّع بخيرات السماء محصورة في شكلها للذين يؤمنون بابنه فقط، فهي لم تعدم الاتساع في حقيقتها، إذ أنها لكل الذين يؤمنون.
ومما يُزيد هذه المحبة جلالاً، أنها لم تكن سهلة في إعطائها وتقديمها لنا، بل استلزمت من الآب ”بَذْل“ ابنه الوحيد، وإن كنا لا نُدرك الآن معنى هذه الكلمة: ”بَذْل“ بالنسبة لله القادر على كل شيء، ولكن لا يَخْفَى هذا المعنى على مطالب المحبة التي أحبنا بها الله.
ومن أجل هذا أيضاً صار الدخول إلى استحقاقات هذه المحبة، أن يستلزم من جانبنا الإيمان بهذا البَذْل، والإيمان بمَن قام بتكميل واجبات المحبة ومطالبها، يسوع المسيح، الذي تحمَّلها وحده، الابن الذي بدوره بَذَلَ حياته.
النموذج المساوي:
جاء الابن إلى عالمنا ليُتمِّم رسالة محبة الآب لنا. بَذَلَ الآب ابنه الوحيد الذي ارتضى بذلك! وثبَّت وجهه نحو الصليب ليُتمِّم الرسالة حتى النهاية.
ولكنه اشترك معنا في اللحم والدم: «فإذ قد تَشارَك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» (عب 2: 14)، فارتبط هو أيضاً بالحب معنا، فصار سرور الصليب أمامه سرورَيْن: سرور تتميم مشيئة الآب، وسرور تتميم واجبات محبته لنا: «إذ كان قد أحبَّ خاصته... أحبهم إلى المنتهى» (يو 13: 1). ولذلك كان الصليب أمامه ذبيحة طاعة وحب، في سبيلهما استهان بالخزي واللطم والبصاق، فجعل وجهه كالصوان، وأحنى ظهره للضاربين، فأطالوا ضربهم كما شاءوا، ولم يمنع رأسه عن المتآمرين بالهُزء، فوضعوا إكليلاً من الشوك عليها بإحكام، وقدَّم يديه ورجليه للذين خَلَت قلوبهم من الرحمة حتى أكملوا شهوة نفوسهم وصلبوه.
في كل هذا لم تنقص محبته للبشرية كلها ولا قَيْدَ شعرة، ولا لهؤلاء الصالبين أيضاً، إذ قال وهو على الصليب: «يا أبتاه، اغفر لهم» (لو 23: 34).
كانت حياته كلها آية للمحبة، ولم تستطع أقسى المعاملات التي عومل بها من الكتبة والفرِّيسيين والكهنة ورؤساء الكهنة أن تُفقده شيئاً من محبته؛ بل ولم تستطع خيانة التلميذ الذي عاش معه ثلاث سنوات أن تجعله يفتر في محبته. وهو حينما علم أن ساعته قد جاءت، جلس إلى تلاميذه ليأكل معهم الفصح. كان فيهم يهوذا والثلاثون من الفضة في جيبه، وفيهم بطرس الذي سيُنكره بعد ساعة، وبقية التلاميذ الذين سيتركونه ويهربون جميعاً! وهو عالمٌ بكل هذا، وبالرغم من ذلك جلس يُحدِّثهم عن محبته لهم، وكيف أنه سيذهب ليُعدَّ لهم مكاناً ثم يأتي ليأخذهم!
كان قلبه مُثقَّلاً بالحزن، ولكنه كان مملوءاً بالحب!
نظر إلى صالبيه ونظر إلى قلبه، فوجد قلبه يتسع لهم جميعاً!
فطلب لهم المغفرة وأعطاهم دمه الذي سفكوه ليشربوه فيحيوا!
كان أول عمل اهتم به بعد قيامته هو مقابلة بطرس ليؤكِّد له أنه لا يزال يحبه بالرغم مما حدث!! وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات كبقية إخوته تأكيداً لصفحه عن إنكاره له، وأوصاه أن يُثبِّت إخوته، ويرعى غنمه، كأنما لم يحدث شيء!! بيَّن له المحبة، أنها ليس فقط تصفح فحسب، بل وتشجِّع وتكرِّم أيضاً.
كانت آخر وصية خرجت من فمه: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 12)، ثم عاد فكررها: «بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 17). وكانت آخر صلاة قدَّمها من أجلنا جميعاً هي هذه: «وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26).
قال الرب يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عَبْر وادي قدرون حيث كان هناك بستان، دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مُسلِّمه يعرف الموضع.
وإن كانت البشرية تعتز بكلام المسيح ووصاياه، فهذه أعز الكلمات والوصايا، فهي آخر وصية لنا، وآخر صلاة من أجلنا التي بعدها ذهب المسيح وأكمل واجبات المحبة على الصليب.
أول ثمرة:
ولقد وقعت حبة الحنطة وماتت لتأتي بثمر كثير، وكان اسطفانوس رئيس الشمامسة أول شهيد للمحبة، لأنه كان أول شاهدٍ لها.
لقد وقف اسطفانوس بين المشتكين عليه في مجمع رسمي أمام رئيس الكهنة وشهد للمسيح الذي أحبه. ولم يعبأ بصرير أسنانهم أو حنق قلوبهم، ولا للضربات القاتلة التي كانت تنهال عليه. ولما أحس أنه لم تَعُد فرصة أخرى أو قدرة على الكلام والشهادة، صرخ بصوت عظيم: «يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية» (أع 7: 60). فكانت حياته شهادة للمسيح وموته شهادة للمحبة!
شهادة الذي أنكر:
هذا بطرس، الآن قد ملأت المحبة قلبه، واشتعلت الحياة كلها بحب سيده، فقد كان شاهداً لآلام المسيح حسب قوله: «أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن» (1بط 5: 1). بطرس أعطى وصية مثل سيده ولكنه شدَّد فيها على المحبة، لأنه رأى ضحيتها وذاق ثمرتها: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء، فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).
هذا هو بطرس الذي لما أرادوا أن يصلبوه رفض أن يُصلَب كسيده، بل طلب أن يصلبوه مُنكَّساً!! لقد دخلت المحبة قلبه، وانسكبت في أحشائه بعمل الروح القدس، فحوَّلت الإنكار إلى إصرار، والهروب إلى استشهاد!
حبيب المحبة:
يوحنا الرسول حبيب المحبة، عاش رسولاً للمحبة، يُنادي بها حتى آخر نسمة من حياته! كتب رسالة كاملة عن المحبة، ولما أراد كتابة رسالة ثانية كتبها عن المحبة، وكتب رسالة ثالثة فكانت عن المحبة أيضاً!
ظل يعظ شعبه بأفسس عن المحبة، حتى ملَّت الجماهير وطلبوا منه أن يقول لهم كلاماً جديداً، فقال لهم: ”وصية جديدة أقولها لكم: أحبوا بعضكم“. وفي أواخر أيامه كانوا يحملونه إلى الكنيسة ليقول كلمة واحدة هي هي: ”أحبوا بعضكم“. أراد يوحنا أن يُكرِم المحبة، فلم يستطع أن يُكرمها بأكثر من أن يضعها بعد كلمة ”الله“: ”الله محبة“.
مُضطهِد المحبة:
+ «شاول شاول، لماذا تضطهدني؟...
مَن أنت يا سيد؟...
أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أع 9: 5،4).
ومن هذه اللحظة صار شاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبه يذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أن أُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).
جعلته المحبة يحترق لأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقد امتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكون محروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3).
ثم عاد يقول إنه لا شيء يفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتى المستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39).
نظر بولس إلى أعماق كل الناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان، فوجده لا شيء بدون المحبة.
ورأى فلسفة الكلام إذا وصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هي بدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديم الجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3).
هذا هو شاول لما ذاق المحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول!
شعلة من نار:
هذا أُغسطينوس الذي ركض في ميدان الفساد والمروق عن إلهه حتى كلَّت قدماه! ولما فتح قلبه للنور، انسكب فيه حتى صار شعلة تنير لكل الأجيال!
وإذ تطلَّعت عين الساهر قدوس إسرائيل، حنَّت أحشاؤه ونظر إليه والشيطان قائم عن يمينه ليُقاوم. فقال الرب للشيطان: «لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب... أفليس هذه شعلة مُنتشلة من النار» (زك 3: 2،1).
وصار أُغسطينوس قيثارة المحبة. بحث عن المحبة وجدَّ في إثرها حتى وجدها في أعماق الله. أخذ يتعقَّبها في كل الميادين، فوجدها نافعة لكل شيء وبدونها ليس منفعة لشيء! ولما وثق من قوة المحبة وفاعليتها، قال حكمته المشهورة: ”حِبّ واصنع ما شئتَ“!
وظل أُغسطينوس يعظ شعبه عن المحبة في عشر عظات متوالية، فلم يملَّ الشعب مما يسمع، ولا هو كَلَّ من الكلام!
وقد استهل عظاته بهذا الكلام:
[كل مَن سمع كلماتي ووجدها عنده سيفرح بها! فتصير له كنقط الزيت على شعلة تزكيها وتُلهبها! فتنمو عنده وتثبت! وللبعض ستصير لهم هذه الكلمات كالنار لخشب مستعد للوقود! تلمسه فيشتعل، ويستكمل ما كان ينقصه. المحبة فرح لسامعيها، وسلام لِمَن يجدها]!
”جعلتُك أباً لجمهور من المُحبين“:
هذا بولا القديس الذي اضطرمت المحبة في قلبه، فضاق العالم عن أن يسعه، وخرج هائماً على وجهه يطلب وجه الله في البراري والقفار حتى وجده! فارتاحت نفسه: «مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها» (نش 8: 5).
عاش مع إلهه الذي أحبه كل أيام حياته متغرِّباً عن العالم حتى مات! فصحَّ فيه أيضاً قول صاحب نشيد الأنشاد: «أُحلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم: أَلاَّ تيقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش 8: 4). فلم يستيقظ بولا إلاَّ في العالم الآخر بين أحضان مَن أحبته نفسه، فعاش مئة واثنتي عشرة سنة لحبيبه ولحبيبه وحده، شاهداً بمحبته حتى الموت.
وهذا النموذج الصغير الهادئ، دفع من بعده الآلاف من البتوليين: منهم الشباب، ومنهم الشيوخ، ومنهم الأتقياء، ومنهم اللصوص والزواني، ومنهم أبناء الملوك، ومنهم بنات الملوك متخفيات في زيِّ الرجال!
وهؤلاء اتَّقدت فيهم نار المحبة، إذ سمعوا خبر المحبين الذين سبقوهم، فتحركت قلوبهم بكلمة أو بعظة أو بيقظة ضمير أو بصوت الحبيب يدعوهم إلى حياة أفضل! فباعوا كل ما عندهم مسرورين، وباعوا العالم راضين، ثم باعوا أنفسهم للحبيب وعاشوا كما عاش أبوهم الأول هائمين في البراري والقفار والجبال الموحشة وشقوق الأرض، مكروبين معتازين من أجل عِظَم محبتهم في الملك المسيح!
قالوا لأحدهم: ”إن أباك مات“. فقال: ”صَهْ! إن أبي لا يموت“. وقال أحدهم: ”أنا لا أخاف الله“. فقالوا له: ”إن هذا الكلام صعب يا أبانا“. ففسَّره لهم وقال: ”لأني أحبه «والمحبة... تطرح الخوف إلى خارج» (1يو 4: 18)“.
هؤلاء عرفوا المحبة، فعرفوا الله. ولما ذاقوها انفتحت أذهانهم وعرفوا أنه هو الرب، فالتهبت قلوبهم فيهم، وأخذوا ينشدون للحيِّ من صباح حياتهم إلى المساء، وهم يُرتِّلون ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف قائلين: «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).
شهود من تحت المذبح:
+ «رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم... فأُعطوا كل واحد ثياباً بـِيضاً وقيل لهم: أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً، حتى يَكْمَل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 9-11).
من كل شعب ومن كل لسان ومن كل أُمة، كان للمحبة التي انسكبت في قلوب المؤمنين بالمسيح شهودٌ، كان من نصيبهم في الأرض بسبب هذا الحبيب، العذاب والقتل؛ أما نصيبهم في السماء، المكان الأول ”تحت المذبح“.
ثلاثون ألفاً بالإسكندرية قُتلوا دفعةً واحدة! ليجلسوا هناك معاً ومع الذين سبقوهم، ينتظرون العتيدين أن يُقتلوا مثلهم! كلَّت فيهم أيدي القاتلين وما فَتَر الحب الذي فيهم قَيْدَ شعرة. ارتفعت ألسنة النيران للتعذيب أمام عيونهم، فأطفأت رهبَتَها نيرانُ الحب المتأجِّجة في قلوبهم. أُمهات أُخذت أطفالهن أمام عيونهن ليُذبحوا أمامهن، فلم يبكين ولم يلطمن ولم يُغشَ عليهن من هول المنظر! بل كُنَّ يُشجِّعن أولادهن حتى يحتملوا، لينالوا محبة الشهادة وأكاليلها.
إنها محبة، محبة ليست من هذا الدهر، محبة ليست من لحم ودم! محبة انسكبت في قلوبهن بالروح القدس!!
هذه المحبة كانت تدفع الرجال والنساء، بل وعائلات بأجمعها أن يسيروا على أرجلهم من دمنهور إلى الإسكندرية، لماذا؟
هل ليتنزهوا هناك؟ كلاَّ! هل ليشتروا مطالب ضرورية؟ كلاَّ! هل ليبيعوا ويشتروا ويستغنوا؟ كلاَّ! ولكن لماذا؟ اسمع: لماذا؟ ليستشهدوا!!!
ذهبوا بأنفسهم على أرجلهم، لينالوا فخر الشهادة للمسيح ويرحلوا عن هذا العالم، وهم كانوا في الطريق يترنمون كأنهم ذاهبون إلى العيد!
هذه هي المحبة، وهؤلاء هم المحبون!
مَن ذا الذي لا يشتهي المحبة؟
مَن ذا الذي لا يشتاق ويتحرك قلبه ليكون للحبيب مُحبّاً ومحبوباً!
وإن اشتهيناها كيف نهدأ قبل أن نملكها؟
وإن ملكناها فسوف نغلب بها العالم والموت!
«المحبة قوية كالموت» (نش 8: 6).
[ يا إخوتي، ليس لكلمات وعظي القدرة أن تعمل لتوسيع قلوبكم، فاطلبوا من الله لكي تحبوا بعضكم بعضاً، وهو يُعطيكم] - القديس أُغسطينوس. +
حياة المحبة الكاملة ابونا متى المسكين(1956)
أيها الباحثون عن الله كفُّوا واهدأوا، اتركوا العقل. فقد وجدنا شيئاً نستطيع أن نحسه بالقلب ونقول: هذا هو الله.
أحبوا، أحبوا، أحبوا فـ «كل مَن يحب فقد وُلِد من الله (من جديد) ويعرف الله. ومَن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة» (1يو 4: 8،7).
+++
المحبة تُشتهى
+ «إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة، تُحتَقَر احتقاراً» (نش 8: 7).
نماذج:
مصدر المحبة:
الشمس تُشرق كل يوم، والسماء تُمطر في أوانها، وخيرات الرب الإله تعُم المسكونة كلها. في كل صباح تتجدَّد علينا مراحمه، ومن جيل إلى جيل يتحدث الناس عن صلاح الله.
لقد أحبنا الله، أحبنا جميعاً. لم يُفرِّق في حبِّه بين أشرار وصالحين، أو بين أبرار وظالمين؛ بل جعل خيراته هذه لكل نفس حيَّة، الكلُّ يشبع من رضاه. وهكذا سيظل الأشرار والظالمون يتمتعون بخيرية الله وصلاحه مدى حياتهم في هذا الدهر. والله في هذا غير نادم، لأن في هذا كمال محبته: «أحبُّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين... فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كاملٌ» (مت 5: 44-48).
ولكن محبة الله لا يمكن أن تقف عند هذه الحدود المادية الضيقة، ويلزم أن يظهر سموها وجلالها في دائرة أعظم، لابد أن تتخطَّى الحدود المادية لتتخذ مجالها في العالم الآخر في الحياة الأبدية، فهذا يتناسب جداً مع اتساعها غير المحدود: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).
وهكذا نرى كيف امتدَّت المحبة نحو اتساعٍ يليق بها، وأَهَّلتنا للتمتُّع بخيرات أبدية وحياة خالدة مع مصدر هذه الخيرات.
إن كانت الدعوة للحياة الأبدية للتمتُّع بخيرات السماء محصورة في شكلها للذين يؤمنون بابنه فقط، فهي لم تعدم الاتساع في حقيقتها، إذ أنها لكل الذين يؤمنون.
ومما يُزيد هذه المحبة جلالاً، أنها لم تكن سهلة في إعطائها وتقديمها لنا، بل استلزمت من الآب ”بَذْل“ ابنه الوحيد، وإن كنا لا نُدرك الآن معنى هذه الكلمة: ”بَذْل“ بالنسبة لله القادر على كل شيء، ولكن لا يَخْفَى هذا المعنى على مطالب المحبة التي أحبنا بها الله.
ومن أجل هذا أيضاً صار الدخول إلى استحقاقات هذه المحبة، أن يستلزم من جانبنا الإيمان بهذا البَذْل، والإيمان بمَن قام بتكميل واجبات المحبة ومطالبها، يسوع المسيح، الذي تحمَّلها وحده، الابن الذي بدوره بَذَلَ حياته.
النموذج المساوي:
جاء الابن إلى عالمنا ليُتمِّم رسالة محبة الآب لنا. بَذَلَ الآب ابنه الوحيد الذي ارتضى بذلك! وثبَّت وجهه نحو الصليب ليُتمِّم الرسالة حتى النهاية.
ولكنه اشترك معنا في اللحم والدم: «فإذ قد تَشارَك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» (عب 2: 14)، فارتبط هو أيضاً بالحب معنا، فصار سرور الصليب أمامه سرورَيْن: سرور تتميم مشيئة الآب، وسرور تتميم واجبات محبته لنا: «إذ كان قد أحبَّ خاصته... أحبهم إلى المنتهى» (يو 13: 1). ولذلك كان الصليب أمامه ذبيحة طاعة وحب، في سبيلهما استهان بالخزي واللطم والبصاق، فجعل وجهه كالصوان، وأحنى ظهره للضاربين، فأطالوا ضربهم كما شاءوا، ولم يمنع رأسه عن المتآمرين بالهُزء، فوضعوا إكليلاً من الشوك عليها بإحكام، وقدَّم يديه ورجليه للذين خَلَت قلوبهم من الرحمة حتى أكملوا شهوة نفوسهم وصلبوه.
في كل هذا لم تنقص محبته للبشرية كلها ولا قَيْدَ شعرة، ولا لهؤلاء الصالبين أيضاً، إذ قال وهو على الصليب: «يا أبتاه، اغفر لهم» (لو 23: 34).
كانت حياته كلها آية للمحبة، ولم تستطع أقسى المعاملات التي عومل بها من الكتبة والفرِّيسيين والكهنة ورؤساء الكهنة أن تُفقده شيئاً من محبته؛ بل ولم تستطع خيانة التلميذ الذي عاش معه ثلاث سنوات أن تجعله يفتر في محبته. وهو حينما علم أن ساعته قد جاءت، جلس إلى تلاميذه ليأكل معهم الفصح. كان فيهم يهوذا والثلاثون من الفضة في جيبه، وفيهم بطرس الذي سيُنكره بعد ساعة، وبقية التلاميذ الذين سيتركونه ويهربون جميعاً! وهو عالمٌ بكل هذا، وبالرغم من ذلك جلس يُحدِّثهم عن محبته لهم، وكيف أنه سيذهب ليُعدَّ لهم مكاناً ثم يأتي ليأخذهم!
كان قلبه مُثقَّلاً بالحزن، ولكنه كان مملوءاً بالحب!
نظر إلى صالبيه ونظر إلى قلبه، فوجد قلبه يتسع لهم جميعاً!
فطلب لهم المغفرة وأعطاهم دمه الذي سفكوه ليشربوه فيحيوا!
كان أول عمل اهتم به بعد قيامته هو مقابلة بطرس ليؤكِّد له أنه لا يزال يحبه بالرغم مما حدث!! وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات كبقية إخوته تأكيداً لصفحه عن إنكاره له، وأوصاه أن يُثبِّت إخوته، ويرعى غنمه، كأنما لم يحدث شيء!! بيَّن له المحبة، أنها ليس فقط تصفح فحسب، بل وتشجِّع وتكرِّم أيضاً.
كانت آخر وصية خرجت من فمه: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 12)، ثم عاد فكررها: «بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 17). وكانت آخر صلاة قدَّمها من أجلنا جميعاً هي هذه: «وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26).
قال الرب يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عَبْر وادي قدرون حيث كان هناك بستان، دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مُسلِّمه يعرف الموضع.
وإن كانت البشرية تعتز بكلام المسيح ووصاياه، فهذه أعز الكلمات والوصايا، فهي آخر وصية لنا، وآخر صلاة من أجلنا التي بعدها ذهب المسيح وأكمل واجبات المحبة على الصليب.
أول ثمرة:
ولقد وقعت حبة الحنطة وماتت لتأتي بثمر كثير، وكان اسطفانوس رئيس الشمامسة أول شهيد للمحبة، لأنه كان أول شاهدٍ لها.
لقد وقف اسطفانوس بين المشتكين عليه في مجمع رسمي أمام رئيس الكهنة وشهد للمسيح الذي أحبه. ولم يعبأ بصرير أسنانهم أو حنق قلوبهم، ولا للضربات القاتلة التي كانت تنهال عليه. ولما أحس أنه لم تَعُد فرصة أخرى أو قدرة على الكلام والشهادة، صرخ بصوت عظيم: «يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية» (أع 7: 60). فكانت حياته شهادة للمسيح وموته شهادة للمحبة!
شهادة الذي أنكر:
هذا بطرس، الآن قد ملأت المحبة قلبه، واشتعلت الحياة كلها بحب سيده، فقد كان شاهداً لآلام المسيح حسب قوله: «أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن» (1بط 5: 1). بطرس أعطى وصية مثل سيده ولكنه شدَّد فيها على المحبة، لأنه رأى ضحيتها وذاق ثمرتها: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء، فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).
هذا هو بطرس الذي لما أرادوا أن يصلبوه رفض أن يُصلَب كسيده، بل طلب أن يصلبوه مُنكَّساً!! لقد دخلت المحبة قلبه، وانسكبت في أحشائه بعمل الروح القدس، فحوَّلت الإنكار إلى إصرار، والهروب إلى استشهاد!
حبيب المحبة:
يوحنا الرسول حبيب المحبة، عاش رسولاً للمحبة، يُنادي بها حتى آخر نسمة من حياته! كتب رسالة كاملة عن المحبة، ولما أراد كتابة رسالة ثانية كتبها عن المحبة، وكتب رسالة ثالثة فكانت عن المحبة أيضاً!
ظل يعظ شعبه بأفسس عن المحبة، حتى ملَّت الجماهير وطلبوا منه أن يقول لهم كلاماً جديداً، فقال لهم: ”وصية جديدة أقولها لكم: أحبوا بعضكم“. وفي أواخر أيامه كانوا يحملونه إلى الكنيسة ليقول كلمة واحدة هي هي: ”أحبوا بعضكم“. أراد يوحنا أن يُكرِم المحبة، فلم يستطع أن يُكرمها بأكثر من أن يضعها بعد كلمة ”الله“: ”الله محبة“.
مُضطهِد المحبة:
+ «شاول شاول، لماذا تضطهدني؟...
مَن أنت يا سيد؟...
أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أع 9: 5،4).
ومن هذه اللحظة صار شاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبه يذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أن أُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).
جعلته المحبة يحترق لأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقد امتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكون محروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3).
ثم عاد يقول إنه لا شيء يفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتى المستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39).
نظر بولس إلى أعماق كل الناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان، فوجده لا شيء بدون المحبة.
ورأى فلسفة الكلام إذا وصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هي بدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديم الجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3).
هذا هو شاول لما ذاق المحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول!
شعلة من نار:
هذا أُغسطينوس الذي ركض في ميدان الفساد والمروق عن إلهه حتى كلَّت قدماه! ولما فتح قلبه للنور، انسكب فيه حتى صار شعلة تنير لكل الأجيال!
وإذ تطلَّعت عين الساهر قدوس إسرائيل، حنَّت أحشاؤه ونظر إليه والشيطان قائم عن يمينه ليُقاوم. فقال الرب للشيطان: «لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب... أفليس هذه شعلة مُنتشلة من النار» (زك 3: 2،1).
وصار أُغسطينوس قيثارة المحبة. بحث عن المحبة وجدَّ في إثرها حتى وجدها في أعماق الله. أخذ يتعقَّبها في كل الميادين، فوجدها نافعة لكل شيء وبدونها ليس منفعة لشيء! ولما وثق من قوة المحبة وفاعليتها، قال حكمته المشهورة: ”حِبّ واصنع ما شئتَ“!
وظل أُغسطينوس يعظ شعبه عن المحبة في عشر عظات متوالية، فلم يملَّ الشعب مما يسمع، ولا هو كَلَّ من الكلام!
وقد استهل عظاته بهذا الكلام:
[كل مَن سمع كلماتي ووجدها عنده سيفرح بها! فتصير له كنقط الزيت على شعلة تزكيها وتُلهبها! فتنمو عنده وتثبت! وللبعض ستصير لهم هذه الكلمات كالنار لخشب مستعد للوقود! تلمسه فيشتعل، ويستكمل ما كان ينقصه. المحبة فرح لسامعيها، وسلام لِمَن يجدها]!
”جعلتُك أباً لجمهور من المُحبين“:
هذا بولا القديس الذي اضطرمت المحبة في قلبه، فضاق العالم عن أن يسعه، وخرج هائماً على وجهه يطلب وجه الله في البراري والقفار حتى وجده! فارتاحت نفسه: «مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها» (نش 8: 5).
عاش مع إلهه الذي أحبه كل أيام حياته متغرِّباً عن العالم حتى مات! فصحَّ فيه أيضاً قول صاحب نشيد الأنشاد: «أُحلِّفكُنَّ يا بنات أورشليم: أَلاَّ تيقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش 8: 4). فلم يستيقظ بولا إلاَّ في العالم الآخر بين أحضان مَن أحبته نفسه، فعاش مئة واثنتي عشرة سنة لحبيبه ولحبيبه وحده، شاهداً بمحبته حتى الموت.
وهذا النموذج الصغير الهادئ، دفع من بعده الآلاف من البتوليين: منهم الشباب، ومنهم الشيوخ، ومنهم الأتقياء، ومنهم اللصوص والزواني، ومنهم أبناء الملوك، ومنهم بنات الملوك متخفيات في زيِّ الرجال!
وهؤلاء اتَّقدت فيهم نار المحبة، إذ سمعوا خبر المحبين الذين سبقوهم، فتحركت قلوبهم بكلمة أو بعظة أو بيقظة ضمير أو بصوت الحبيب يدعوهم إلى حياة أفضل! فباعوا كل ما عندهم مسرورين، وباعوا العالم راضين، ثم باعوا أنفسهم للحبيب وعاشوا كما عاش أبوهم الأول هائمين في البراري والقفار والجبال الموحشة وشقوق الأرض، مكروبين معتازين من أجل عِظَم محبتهم في الملك المسيح!
قالوا لأحدهم: ”إن أباك مات“. فقال: ”صَهْ! إن أبي لا يموت“. وقال أحدهم: ”أنا لا أخاف الله“. فقالوا له: ”إن هذا الكلام صعب يا أبانا“. ففسَّره لهم وقال: ”لأني أحبه «والمحبة... تطرح الخوف إلى خارج» (1يو 4: 18)“.
هؤلاء عرفوا المحبة، فعرفوا الله. ولما ذاقوها انفتحت أذهانهم وعرفوا أنه هو الرب، فالتهبت قلوبهم فيهم، وأخذوا ينشدون للحيِّ من صباح حياتهم إلى المساء، وهم يُرتِّلون ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف قائلين: «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين» (رؤ 15: 3).
شهود من تحت المذبح:
+ «رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم... فأُعطوا كل واحد ثياباً بـِيضاً وقيل لهم: أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً، حتى يَكْمَل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 9-11).
من كل شعب ومن كل لسان ومن كل أُمة، كان للمحبة التي انسكبت في قلوب المؤمنين بالمسيح شهودٌ، كان من نصيبهم في الأرض بسبب هذا الحبيب، العذاب والقتل؛ أما نصيبهم في السماء، المكان الأول ”تحت المذبح“.
ثلاثون ألفاً بالإسكندرية قُتلوا دفعةً واحدة! ليجلسوا هناك معاً ومع الذين سبقوهم، ينتظرون العتيدين أن يُقتلوا مثلهم! كلَّت فيهم أيدي القاتلين وما فَتَر الحب الذي فيهم قَيْدَ شعرة. ارتفعت ألسنة النيران للتعذيب أمام عيونهم، فأطفأت رهبَتَها نيرانُ الحب المتأجِّجة في قلوبهم. أُمهات أُخذت أطفالهن أمام عيونهن ليُذبحوا أمامهن، فلم يبكين ولم يلطمن ولم يُغشَ عليهن من هول المنظر! بل كُنَّ يُشجِّعن أولادهن حتى يحتملوا، لينالوا محبة الشهادة وأكاليلها.
إنها محبة، محبة ليست من هذا الدهر، محبة ليست من لحم ودم! محبة انسكبت في قلوبهن بالروح القدس!!
هذه المحبة كانت تدفع الرجال والنساء، بل وعائلات بأجمعها أن يسيروا على أرجلهم من دمنهور إلى الإسكندرية، لماذا؟
هل ليتنزهوا هناك؟ كلاَّ! هل ليشتروا مطالب ضرورية؟ كلاَّ! هل ليبيعوا ويشتروا ويستغنوا؟ كلاَّ! ولكن لماذا؟ اسمع: لماذا؟ ليستشهدوا!!!
ذهبوا بأنفسهم على أرجلهم، لينالوا فخر الشهادة للمسيح ويرحلوا عن هذا العالم، وهم كانوا في الطريق يترنمون كأنهم ذاهبون إلى العيد!
هذه هي المحبة، وهؤلاء هم المحبون!
مَن ذا الذي لا يشتهي المحبة؟
مَن ذا الذي لا يشتاق ويتحرك قلبه ليكون للحبيب مُحبّاً ومحبوباً!
وإن اشتهيناها كيف نهدأ قبل أن نملكها؟
وإن ملكناها فسوف نغلب بها العالم والموت!
«المحبة قوية كالموت» (نش 8: 6).
[ يا إخوتي، ليس لكلمات وعظي القدرة أن تعمل لتوسيع قلوبكم، فاطلبوا من الله لكي تحبوا بعضكم بعضاً، وهو يُعطيكم] - القديس أُغسطينوس. +
حياة المحبة الكاملة ابونا متى المسكين(1956)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق