الخميس، 13 أغسطس 2009

كيف نتخلَّص من العادة الضارة؟

بقلم نيافة الأنبا مكاريوس الأسقف العام
هناك مبدأ فى الحياة النسكية يقول أن أفضل طريقة لذلك هى شفاء الضد بالضد!! وقلنا فيما سبق أنه فى المسيح يسوع لا يستحيل شئ وبالتالى لا يصعب شئ، بل أن الإرادة القوية المسنودة بالإتضاع مع عمل النعمة، من شأن ذلك أن يعيننا فى التخلص من أى عادة سيئة (أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى فى 4: 13).
يقول الأب ثيؤدوروس الناسك: "تظهر المعرفة الطبيعية المتعلقة بالفضائل والعادات المضادة لها فى نوعين، النوع الأول هو المعرفة النظرية، عندما يفكر الإنسان فى ذلك فى حين يفتقر إلى الخبرة بل قد لا يكون متأكداً فى بعض الأحيان مما يقوله، والآخر هو عملى حيث تكون تلك المعرفة مؤكدة بالخبرة، وعلى هذا تكون واضحة وجديرة بالثقة دون شك، وفى ضوء هذا تظهر بعض معوقات للعقل فى سبيل اقتناء الفضيلة، مثل الميل الطبيعى للعادة والذى يقاوم الفضيلة بطبيعته، وبالممارسة الطويلة ينجذب العقل لأسفل جهة الأرضيات، ومثل تأثير الحواس المثارة والتى تجذب العقل إليها..
و يقول الأب لوقيوس: "توجعت معدتى مرة وطلبت طعاما فى غير أوانه، فقلت لها: موتى مادمت قد طلبت طعاما فى غير أوانه، فها أنا أقطع عنك ما كنت أعطيك إياه فى أوانه".
فالأمر إذن يحتاج الى المواجهة مواجهة النفس بضعفاتها مع القناعة الداخلية بضرورة محاربة تلك العادة ومواجهة هذه، وقد تحتاج بعض العادات الى الحل القاطع بينما يناسب البعض الآخر التدرج، فبعض العادات مثل السرعة فى الكلام تحتاج الى التدرب على القراءة بصوت عال فى مكان منفرد، بينما عادة مثل التدخين تحتاج الى القطع، وقد لا يرضى الإنسان بقطعها طواعية فى حين يضطر الى ذلك مع المرض ومع التقدم فى السن حيث تحرم الشيخوخة أصحابها من متابعة عاداتهم والأستمرار فيها، قال أحدهم (ها قد بلغت الستين من عمرى.. إن شهيتى تجاه بعض الأطعمة مثل الحلوى والمرطبات لم تنقص، ولكن قدرتى على ضبط النفس تجاهها قد ازدادت).
يقول الأب دوروثيئوس الناسك: "إن النفس الواقعة تحت سيطرة بعض العادات هى قادرة أيضا على التغلب على تلك العادات، إنها قبل تكوين العادة قد إنخدعت بالجهل، لذا يجب على الإنسان أن يسعى الى المعرفة الحقيقية لجوهر الحياة ومن ثم يحث إرادته جهة الصلاح محتقرا كل الأشياء العالمية موقنا من فنائها، لأنه ماذا تساوى تلك الأمور بالنسبة لهدفنا الحقيقى؟".
إنّ عادة مثل التلصص بالنظر أثناء السير والوقوف.. يناسبها القطع والبتر لا التدرج، يقول الأب نيلوس " أننا لن ننتفع شيئا إذا ظللنا منجذبين للخلف مستمرين فى التفكير فى الأشياء العالمية، مثل امرأة
لوط، حيث ننظر الى كل ما تركناه حيث نعلن بذلك تمسكنا، فهى نظرت الى الخلف فتحولت الى عمود ملح، وظلت الى اليوم مثال الى عدم الطاعة (تك 26:19) إنها تمثل قوة العادة التى تجذبنا الى الخلف ثانية بعد أن نكون قد حاولنا اتخاذ موقف للزهد".
بينما عادة مثل الشراهة فى الطعام والتى تؤدى الى السمنة المفرطة، فإنه يناسبها التدرج من خلال الرجيم (نظام غذائى يتسم بالتدّرج). وإن كان هذا يختلف قليلا عن شهوة الطعام الطارئة والتى تحتاج الى يقظة، قال أب "إن بطناً أنْتُهِرَت من صاحبها ألا تأكل خبزاً، لا تطلب لحماً". ويقول مار اسحق: "سلاح الآلام والفضائل هو تغيير العوائد والخاصيات، فالعوائد تطلب ما يقدم لها وهى رباطات النفس، وبالسهولة تقتنيها وبصعوبة تنحل منها".
إن الجسد مستعد دائماً للتكيّف والتأقلم مع ما يقرره الإنسان، فإذا كانت إرادة الإنسان قوية استطاع أن يضبط الجسد والذى سيكلل معه في المجد أيضاً، إن المعدة كعضو في الجسم على سبيل المثال، مستعدة للانكماش والاتساع وذلك بحسب كمية الطعام التى يدفعها الإنسان إليها، فهى مع النساك تصغر شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى ما يوازى معدة طفل صغير، عندما مرض الأب عبد المسيح الحبشى وذهب إلى الطبيب، أقر الأخير بأن معدة الأب عبد المسيح قد أصبحت مثل معدة طفل في الثالثة من عمره، وهكذا تعتاد على كمية ضئيلة من الطعام ليشعر بعدها بالشبع.
يقول القديس أولوجيوس لتلميذه: "يا بنى عَود نفسك إضعاف بطنك بالصوم شيئاً فشيئاً لأن بطن الإنسان إنما يشبه زقاَ فارغاً فبقدر ما تمرنه وتملأه تزداد سعته، كذلك الأحشاء التى تحشى بالأطعمة الكثيرة، ان أنت جعلت فيها قليلاً ضاقت وصارت لا تطلب منك إلا القليل".
ويرد في سيرة القديس موسى الأسود، أنه عندما دخل إلى
الدير كان طعامه ما يوازى خروف كامل، وقد استخدم الآباء التدرج معه بطريقة عجيبة، فقد جاءه الآباء بفرع كبير من شجرة واتفقوا معه على أن يقدَمون له طعاماً يومياً بما يساوي في وزنه ذلك الفرع، ومع الوقت وبعد عدة سنوات أصبح الفرع يابساً جداً فخف وزنه ونقص طعامه نقصاناً متوالياً مع الوقت، ومما هو معروف عنه أنه كان من أشهر النساك فى البرية.
ومن بين العادات الجيدة التي يتعلَمها الراهب فى بداية حياته هى صلاة يسوع (ياربى يسوع المسيح إرحمنى أنا الخاطىء) حيث يتمّ التدرَب عليها من خلال "سبحة" يحملها في يده، على أن يردد هذه الصلاة مرة واحدة مع كل حبة يحركها من حبات السبحة، ففى اليوم الأول ولمدة عدة شهور يتمم سبحة كاملة (33 حبة) وبعد ذلك يرددها عدة مرات (يكرر السبحة الواحدة عدة مرات) ومع الوقت تزداد عدد المرات، حتى تتردّد تلقائياً مع حركات التنفس، وفى اختبار الراهب لورانس لهذه الصلاة أصبح يرددها مع كل شهقة وكل زفرة، بحيث يقول شطرة "يارب يسوع المسيح" مع الشهقة وكأنه بذلك يقتبل المسيح داخله، ثم يقول شطرة "ارحمني أنا الخاطىء" مع الزفرة، وكأن المسيح بذلك يطرد الخطية من داخله، وبذلك يتعلم الراهب صلاة يسوع من خلال التعود، بحيث تصبح جزءً لا يتجزأ منه. إنها عادة جيدة تقدس الفكر والوقت والحواس.
يروى شخص رافق أحد المرضى في المستشفى عند احتضاره، حيث كان سن ذلك المريض قد قارب الثمانين، وكانت له عادات ثابتة صارت وكأنها أعضاءً في جسده.. فقد كان يستيقظ عند السابعة فيمضى من توه إلى الحمام، وعند الثامنة تكون إبنته قد أعدت له فنجاناً من الشاى، وكان مأسوراً لعادة التدخين أيضاً أكثر من معاناته من تلف الرئتين وضعف القلب وضيق التنفس فيجلس فوق أريكة خشبية فى بهو الدار يشرب الشاى ويدخن، وكان عند الرابعة عصراً يخرج إلى أمام بيته يجلس على الأريكة يرفع قدمه ويثنيها بينما يترك الأخرى طبيعية، ممسكاً بسيجارته، فإذا ما انتهى منها طوح بعقبها بعيداً. وعندما دخل في الغيبوبة ووضع تحت العناية المركزة ولمدة ثلاثة وأربعة أيام، حدث ما يعد عجيباً، لقد كان يتبرز لا إرادياً عند السابعة صباحاً بالتمام، أما عند الثامنة فقد لوحظ أن يده تتحرك بطريقة ترددية نحو فمه، أما عند الرابعة عصراً فقد ارتفعت قدمه وانثنت تلقائياً بينما راحت يده تتحرك نحو شفتيه عدة مرات بعدها ألقى بيده بكل قوة كمن يرمى عقب السيجارة... هكذا العادة...
ويمكننا التخلص من العادات السيئة عن طريق استبدالها بأخرى جيدة، يقول الأب ديودورس الفوتيكى " هؤلاء المبتدئون فى طريق القداسة يبدو لهم طريق الفضيلة صعباً، وهو وإن كان يبدو هكذا لأن طبيعتنا البشرية منذ الطفولة قد اعتادت الطرق الرحبة للشهوات الجسدية ولكن أولئك الذين اجتازوا أكثر من نصف الطريق يجدون أن طريق الفضيلة سهل لأن العادات الرَديئة عندما تواجه بأخرى جيدة من خلال عمل النعمة فهى تتلاشى بعدم تذكر الشر، وبعد هذا تعبُر النفس بفرح إلى كل طرق الفضيلة، ولهذا عندما يضعنا الرب على أول طريق الخلاص فهو يقول (ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدى إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه مت 14:7) ولكن هؤلاء الذين قبلوا تعاليمه بقوة يقول لهم "نيرى هين وحملى خفيف" (مت30:11)، إذاً فى بداية الجهاد يجب أن نسلك بتغصب حسب قول
السيد المسيح "منذ أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت الله يغصب والغاصبون يُختطفون" (مت 12:11) وعندما يرى الله غيرتنا ومحبتنا وجهادنا يُمنحنا الإرادة والفرح من أجل الطاعة.
يقول الأب بطرس الدمشقى "العادة المتأصلة طويلاً يكون لها قوة الطبيعة ولكن إذا لم تفسح لها الطريق فإنها تفقد قوتها وتتلاشى تدريجياً، سواء أكانت جيدة أم رديئة إذ أن الوقت يغذيها مثلما يغذى الوقود النار فلذلك على قدر إستطاعتنا يجب أن نزرع ونمارس ما هو جيد حتى تصبح عادة متأصلة تمارس تلقائياً وبدون جهد، وهكذا من خلال النصرة على العادات البسيطة انتصر الآباء في المعارك الكبيرة.

ليست هناك تعليقات:

 

Hit Counter
Dating Site