سفر زكريا - الإصحاح الثامن
الأصوام تتحول إلى أعياد
بعد أن قدم لهم درسا مرا من واقع تاريخهم يكشف عن قساوة قلب آبائهم ، عاد ليؤكد لهم غيرته المتقدة نحو أورشليم عروسه . إن كان قد سمح لها بالتأديب القاسى فعاشت فى مرارة لكنه يود أنه يحول حزنها إلى فرح وأصوامها إلى أعياد ، يباركها ويقيمها بركة للأمم . هكذا حول السؤال الذى وجهه أهل بيت إيل بخصوص الصوم إلى الجانب الإيجابى : الكشف عن محبة الله لهم وتحقيق رسالته فيهم بحلوله فى وسطهم كسر فرحهم الداخلى .
1 – غيرة الله على صهيون :
بينما هم يتساءلون عن الصوم الذى فرضوه على أنفسهم بسبب السبى إذا به يدخل بهم إلى أعماقه ليكتشفوا لهيب محبته المتقدة من نحوهم . وكأنه يجيب على سؤالهم بالقول : إنى إله غيور محب لكم ، تلامسوا مع محبتى النارية لتصيروا أنتم أيضا نارا ملتهبة لا تقدر الأحداث أن تطفئها .
يعلن العريس السماوى غيرته على شعبه الراجع من السبى الساقط تحت التأديب بسبب زناه الروحى وإنحرافه :
«وكان كلام رب الجنود قائلاً: هكذا قال رب الجنود: غِرْت على صهيون غيرة عظيمة، وبسخط عظيم غِرْت عليها. هكذا قال الرب: قد رجعت إلى صهيون وأسكن في وسط أورشليم، فتدعى أورشليم مدينة الحق، وجبل رب الجنود الجبل المقدس» (ع 1-3).
موضوع هذا الإصحاح يكشف عن الحق الكامل الخاص بطرق الله نحو أورشليم وبيت يهوذا، بل ومع الإنسان بصفة عامة. لقد رأينا في ختام الأصحاح السابع فشل الشعب وهم تحت المسئولية وما أصابهم من قضاء. أما في هذا الأصحاح فنجد إعلان أغراض الله الثابتة للبركة طبقاً لمقاصد نعمته. وعلى هذا القياس امتحن الله آدم في الجنة ووضعه تحت مسئولية الطاعة كشرط للبركة. وإذ تعدَّى خَسِر كل شيء. وعلى أثر ما تجلَّى من خيبة الأمل أدخل الله رجل مشوراته، نسل المرأة، بوصفه الشخص الذي يُتمِّم الله به كل مقاصد قلبه الأزلية. وهكذا كانت الحال مع إسرائيل، لقد قبلوا مسئولية حفظ الناموس وكانت بركتهم مُعلَّقة على ذلك. غير أن تاريخهم ليس إلا سجلاً لتعدياتهم. وفي الأصحاح السابق يُرينا النبي تصرفات الآباء وكيف أنهم أضاعوا حقوقهم في الأرض بسبب عصيانهم. لكن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة، ولذلك تنتصر نعمته على خطية شعبه بفضل ذاك الذي كان عتيداً أن يموت عن الأمة (يو 51:11) فيستطيع أن يُعْلِن محبته التي لا تتغيَّر لصهيون وأغراضه التي ينفذها لاستردادها ورجوعها. ومن الضروري أن يُدرك القارئ مبادئ طرق الله هذه مع شعبه إذا شاء أن يقرأ الأنبياء بفطنة.
يتميَّز هذا الأصحاح بتكرار عبارة «هكذا قال رب الجنود» وقد يبدو تكرار هذه العبارة مُملاًّ، ولكن ذو الأذن المختونة يجد في التكرار تأكيداً للحق الذي تشتمل عليه الرسالة النبوية. والواقع أن ما من تغيير في الأسلوب أو التعبير إلا وينطوي على تعليم للذهن الروحي.
وعبارة «هكذا قال» تعني أنه ما دام الرب هو الذي قال فقوله حق. ومهما بدا الوعد بعيد المنال أو يفوق الخيال فيجب أن نصدق الله لأنه مُنَزَّه عن الكذب وقادر على كل شيء، وهو يعني ما يقول تماماً، كما قال الرسول في رسالة رومية عن إيمان إبراهيم: «.. أمام الله الذي آمن به، الذي يُحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة .. ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوَّى بالإيمان مُعْطِياً مجداً لله. وتيقن أن ما وعد به هو قادرٌ أن يفعله أيضاً» (رو 17:4-21).
أما عبارة «رب الجنود» فتعني أنه رب القدرة، رب القوات، الذي كل جند السماء والأرض تحت سلطانه، وإذا قال فعل ولا توجد قوة تقف أمام تنفيذ مقاصده الصالحة نحو مختاريه، وتكرار هذا التعبير يدل على زيادة التأكيد.
يُفْتَتَح الأصحاح ببشارة مُفرحة، ليست هي بشارة إنجيل نعمة الله، بل بشارة البركة لصهيون، بشارة الملكوت، لأن بشارة الإنجيل ليست موضوع نبوات العهد القديم، وذلك لأن الكنيسة التي بدأ تكوينها من اليهود والأمم في يوم الخمسين كانت سراً كما يُشير إلى ذلك الرسول بولس قائلاً: «إنه بإعلان عرفني بالسر .. الذي في أجيال أُخَر لم يُعَرَّف به بنو البشر، كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح: أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل» (أف 3:3-6) والكنيسة هي عروس المسيح السماوية، وباكتمالها يتم اختطافها للسماء. وعندئذ تنتهي فترة البشارة بإنجيل نعمة الله وتبدأ بشارة الملكوت (مت 7:10،23) والمُشار إليها هنا.
2 – حلول البركة والسلام :
كأن الله يقول لشعبه : الآن يوجد ما هو أهم من التساؤل إن كنتم تصومون أم تتوقفون عن الصوم الخاص بالسبى ألا وهو إدراك مركزكم الجديد بعد أن أقمتكم كأورشليم الجديدة ، مدينة الحق ، وجبل صهيون الجديد ، جبلى المقدس ... تأملوا عطاياى ونعمى وتمسكوا بها . إن صمتم نائحين أو عيدتم فرحين فليكن فيكم هذا الهدف أن أسكن فيكم فتحل بركتى عليكم وتنعمون بسلامى الفائق .
«هكذا قال رب الجنود قائلاً: سيجلس بعد الشيوخ والشيخات في أسواق أُورشليم، كل إنسان منهم عصاه بيده من كثرة الأيام. وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها» ( ع 4 ، 5 )
من الجانب الحرفى ، إذ يحل الله فى وسطهم يمتلئون أياما صالحة ويحل السلام فيهم فلا يفاجئهم الموت فى شبابهم بل يعيشون حتى الشيخوخة ، مملوئين صحة إذ ينزلون إلى أسواق المدينة يشترون إحتياجاتهم ممسكين كل واحد عصاه بيده .
أما من الجانب الرمزى فأسواق أورشليم التى يجلس فيها الشيوخ والشيخات هى فيض الحكمة الذى ينساب كنهر يفرح مدينة الله ( مز 46 : 4 ) .
وجود الصبيان والبنات أيضا فى الأسواق يلعبون إنما يشير إلى الطمأنينة التى سادت على الجميع وعدم توقع وجود حرب تنزع الفرح عن الكبار والصغار .
وهناك ملحوظة جديرة بالانتباه وهي المقارنة بين صورة ما فعلته الخطية في نفس شوارع أورشليم وبين الحالة التي رأيناها والتي ستكون في شوارع أورشليم مستقبلاً. ففي مراثي إرميا نقرأ عن الصورة المُحْزِنة التي كانت في شوارع المدينة: «عَذَارَاى وشُبَّانِي ذهبوا إلى السبي .. كهنتي وشُيوخي في المدينة ماتوا، إذ طلبوا لذواتهم طعاماً ليَرُدُّوا أنفسهم .. في الخارج يَثكُل السيف، وفي البيت مثل الموت» (مرا 18:1-20)، وأيضاً «شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين. يرفعون التراب على رؤوسهم. يتنطَّقون بالمُسُوح. تَحْنِي عَذَارَى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض. كَلَّت من الدموع عيناي. غَلَت أحشائي. انسكَبَت على الأرض كبدي على سحق بنت شعبي، لأجل غَشَيان الأطفال والرضع في ساحات القرية. يقولون لأمهاتهم: أين الحنطة والخمر؟ إذ يُغْشَى عليهم كجريح في ساحات المدينة، إذ تُسْكَب نفسهم في أحضان أُمهاتهم» (مرا 10:2-12). ما أبعد الفرق بين هذه الصورة الحزينة وبين الصورة البهجة!
هذا العمل الإلهى فى حياة جميع أعضاء الكنيسة يبدو شبه مستحيلا ، إذ يقول النبى :
«هكذا قال رب الجنود: هأنذا إن يكن ذلك عجيباَ في أعين بقية هذا الشعب في هذه الأيام،
أفيكون أيضاَ عجيباً في عينيَّ؟ يقول رب الجنود» (ع 6).
سيكون إتمام هذا الوعد مبعث دهشة لمن يشاهدونه. وإذا كان هذا عجيبًا عندهم لأنه صعب المنال لكنه ليس عجيبًا في عيني الرب لأنه ليس عند الرب مستحيل، وهذا يذكرنا بكلام الرب لسارة عندما قالت: «أبعد فنائي يكون لي تنعّم، وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة .. هل يستحيل على الرب شيء؟» (تك 12:18-14).
إذ يجتمع شعب الله من كل الأمم بقلب واحد تكون له الأيدى المتشددة القوية القادرة بالرب على بناء الهيكل :
«هكذا قال رب الجنود: لتَتَشدَّدْ أيديكم أيها السامعون في هذه الأيام هذا الكلام من أفواه الأنبياء الذي كان يوم أُسِّس بيت رب الجنود لبناء الهيكل. لأنه قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أُجرة ولا للبهيمة أُجرة، ولا سلام لمن خرج أو دخل من قبل الضيق. وأطلقت كل إنسان، الرجل على قريبه» (ع 9، 10).
إن كنا قد سمعنا من أفواه الأنبياء عن تأسيس بيت رب الجنود أى عن التجسد الإلهى ، إذ يدعو الرب نفسه جسده هيكلا ، فإن هذا التجسد يهب قوة لأيدينا للعمل به ، فتتحول الوصية الإلهية فى حياتنا إلى حياة عملية معاشة .
لقد أقام الله هذا الجسد ، إذ قيل : " الحكمة بنت بيتها " ( أم 9 : 1 ) . فصار الله حالا فى وسطنا ويهبنا إمكانياته السماوية للعمل لحساب ملكوته .
إلتقاؤنا مع الإله المتجسد ، وسكناه فى وسطنا لم يشدد الأيدى بإمكانياته الإلهية العاملة فينا فحسب ، وإنما قطع روح اليأس الذى فينا وألهب أعماقنا بالرجاء . فالعمل لا يحتاج فقط إلى الأيدى القوية والجهاد والمثابرة وإنما أيضا إلى الروح المملوء رجاء فى الرب لهذا يقول :
" لأنه قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أُجرة ولا للبهيمة أُجرة، ولا سلام لمن خرج أو دخل من قبل الضيق. وأطلقت كل إنسان، الرجل على قريبه " .
لقد أحاط الضيق بهم مما جعل الإنسان كما الحيوان بلا قيمة حتى إن عملا شيئا فبلا نفع ولا يستحقان أجرة ! لقد كانت أورشليم خربة كالبرية ، ويحكمها الغرباء ، فكل مجهود يقوم به الإنسان لا يجدى شيئا .
هذه صورة مرة للبشرية خارج عمل الله ، إنها تخرج للعمل وتدخل لتقدم حسابا فتجد نفسها فى فراغ وبلا ثمر ولا تستحق المكافأة إذ إنشغل كل واحد بمقاومة أخيه
«أما الآن فلا أكون أنا لبقية هذا الشعب كما في الأيام الأولى، يقول رب الجنود. بل زرع السلام، الكرم يُعطي ثمره، والأرض تُعطي غلتها، والسماوات تُعطي نداها، وأُملِّك بقية هذا الشعب هذه كلها» (ع 11، 12).
يا لها صورة مبهجة بعد أن كان الإنسان يعمل بلا تعقل كالحيوان فلا يكون له أجرة ، إذ تفقد النفس ( الإنسان ) ثمرتها كما يفقد الجسد ( الحيوان ) قدسيته ، ويقاوم أحدهما الآخر ، الآن إذ يسكن الرب فيه ، ليس فقط تنعم نفسه بالأجرة وإنما جسده أيضا ويكون بينهما وفاق روحى ويصير له ثمر روحى فائق ، تعمل الأرض كما السماء لحسابه فى الرب .
3 – تذكيرهم بالوصية :
وسط هذه البركات التى تحل فى حياتهم بسكنى الرب فيهم التى تبدو كأنها مستحيلة ( ع 9 ) . يناشدهم بالتمسك بالوصية الإلهية حتى لا يسقطوا تحت غضبه كآبائهم .
«هذه هي الأمور التي تفعلونها. ليكلِّم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم. ولا يُفكِّرَن أحدٌ في السوء على قريبه في قلوبكم. ولا تحبوا يمين الزور. لأن هذه جميعها أكرهها، يقول الرب» (ع 16، 17).
يجب أن نعلم أن هذه الصفات هي صفات المُبَارَكِين الراجعين إلى الأرض، وليست شروطاً، لأنه لو كانت هناك شروط فستتبعها اللعنة مرة أخرى، إنما هذه هي ثمار نعمة الله وصدى محبته وإحسانه لهم. فالأمة كانت قد أضاعت كل شيء وهي تحت المسئولية. لكن الله على أساس موت المسيح بالبر سينفذ بالبر كل الخير الذي تكلَّم به نحو شعبه غير أن النبي يُذكِّر البقية في الأرض أن تمتعهم بالوعد المُعْطَى في الأعداد من 11-13 وتحقيق رضى الله المرتبط بتنفيذ مقاصده من نحوهم، كل ذلك مُطابق لقداسته ومحبته ونعمته.
صحيح أن كل ما سيُحَصَّل عليه هو بالنعمة، غير أن التمتع العملي بالبركات المكفولة في المسيح يتوقف على الناحية العملية. وكأن النبي يريد أن يقول لهم: إن الله يريد أن يُبارككم ويجب عليكم أن تتحلُّوا بصفات الذين يُبارِكهم الله. وهذه التحريضات العملية تؤثر على علاقاتهم المُتبادلة، فعليهم أن يتكلموا بالحق كل واحد مع الآخر كما يقول الرسول: «لذلك اطرحوا عنكم الكذب، وتكلَّموا بالصدق كل واحد مع قريبه» (أف 25:4) وعليهم أن يقضوا قضاء الحق والسلام في أبوابهم لأن صنع العدل والحق هو أبداً سلام «ويكون صُنْعُ العدل سلاماً، وعَمَلُ العدل سُكوناً وطُمأنينة إلى الأبد» (إش 17:32) وعليهم ألا يفكروا بالسوء كل واحد مع أخيه. والواقع أنهم لن يفعلوا هكذا إلا إذا كانوا يُحبُّون إخوتهم كما يحبون أنفسهم كما يقول الرسول بولس: «المحبَّة لا تصنع شراً للقريب» (رو 10:13). وعليهم أن يمتنعوا عن الأقسام الباطلة، وقد سبق النبي وأعلن أن اللعنة تدخل بيت الحالف باسم الرب زوراً وتبيت في وسط بيته وتفنيه مع خشبه وحجارته (زك 4:5).
وخُلاصة القول يجب على الذين يُريدون التمتع بالبركة أن يكونوا في شركة مع فكر الرب تجاه هذه الأمور وأن يُبغضوا الشرور لأنها مكروهة من الرب كما يتضح من قول المُرَنِّم: «يا رب مَنْ ينزل في مسكنك؟ مَنْ يسكن في جبل قدسك؟ السالك بالكمال، والعامل الحق، والمُتكلِّم بالصدق في قلبه. الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شراً بصاحبه، ولا يحمل تَعييراً على قريبه. والرَّذِيل مُحتَقَرٌ في عينيه، ويُكْرِم خائفي الرب. يَحْلِف للضرر ولا يُغَيِّر .. الذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الدهر» (مز 15)
4 –الأصوام تتحول إلى أعياد
«وكان إليَّ كلام رب الجنود قائلاً: هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة. فأحِبُّوا الحق والسلام» (ع 18، 19).
كانت حياتهم الماضية قد اتسمت بالصوم مع النوح بسبب ما حل بهم من تأديبات بسبب خطاياهم ، والآن إذ يحل الرب فى وسطهم ويعلن سكناه فيهم يحول قلوبهم إلى الفرح وحياتهم إلى عيد لا ينقطع هكذا المسيحى الحقيقى وسط أصوامه والآمه إذ يدرك حلول الله فيه لا ينقطع عنه الفرح الداخلى ولا يتوقف العيد عن حياته .
هنا يعود الرب فيُعطِي النبي رسالة أخرى يبدأها بما يتعلَّق بالأصوام. لقد أجاب الرب في الأصحاح السابع عن الأصوام، وكان رد الرب رداً سلبياً، حيث أوضح لهم أن صومهم لم يكن صوماً للرب بل كان في حالة المظاهر الشكلية. أما هنا فيُعطي الرب الجواب الإيجابي المُطابق لفكره من نحو البركة، وهو تحويل هذه الأصوام إلى أعياد وأفراح وابتهاج. وهذه الأصوام جميعها كان لها صلة بحصار أورشليم وخرابها كما نرى على النحو التالي:
1- صوم الشهر الرابع: يُشير إلى حصار أورشليم الثاني بواسطة نبوخذنصر، وفتح أبوابها له، أي أنه في هذا الشهر أُخِذَت المدينة «وفي السنة الحادية عشرة لصدقيا، في الشهر الرابع، في تاسع الشهر فُتِحَت المدينة. ودخل كل رؤساء ملك بابل .. » (إر 2:39،3).
2- صوم الشهر الخامس: يُشير إلى حرق المدينة والهيكل كما نرى في سفر الملوك الثاني «وفي الشهر الخامس، في سابع الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذنصر ملك بابل، جاء نَبُوزَرَادَان رئيس الشرط عَبْد مَلِك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت المَلِك، وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء وأحرقها بالنار» (2مل 8:25-10).
3- صوم الشهر السابع: يُشير إلى قتل جدليا بن أخيقام بن شافان حاكم الأرض كما هو مذكور في سفر الملوك الثاني «وفي الشهر السابع جاء إسماعيل بن نثنيا بن أليشمع من النسل الملكي، وعشرة رجال معه وضربوا جدليا فمات ..» (2مل 25:25).
4- صوم الشهر العاشر: يُشير إلى الحصار الأول الذي حُوصرت فيه أورشليم كما نرى في سفر إرميا «وفي السنة التاسعة لملكه، في الشهر العاشر، في عاشر الشهر، جاء نبوخذنصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزلوا عليها وبنوا أبراجاً حواليها. فدخلت المدينة في الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا» (إر 4:52،5).
فكل هذه الأيام كانت تحمل لليهودي تذكارات حزينة تُعِيد إلى ذهنه، ليس فقط النكبات القومية، بل أيضاً غضب الرب. فمُمارستهم لهذه الأصوام كانت دليلاً على الحزن والألم، كما يعترفون على أن كثيرين منهم كان قد أعياهم الصوم وطلبوا جَوَاباً من الرب. ورأينا إجابة الرب لهم في الأصحاح السابق، تلك الإجابة التي كشفت لهم عن التأديبات المُرعبة التي أصابت الأمة، وفي الوقت ذاته وضع الرب قدامهم شرط البركة. أما هنا في هذا الأصحاح فنرى الرب له المجد يبعث إليهم بزكريا ليقول لهم إنه سيأتي الوقت الذي ستصير فيه كل الأصوام فرحاً وبهجة وأعياداً طيبة. صحيح أن هذا الوقت لم يكن قد جاء بعد، لكنه آتٍ بكل يقين، وإلى أن يأتي، يجب أن يكون الصوم تعبيراً صحيحاً عن حالتهم. لكن في ذلك الوقت سوف يُعطيهم الرب «جَمَالاً عِوضاً عن الرماد، ودُهن فرح عِوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عِوضاً عن الروح اليائسة» (إش 3:61). كان الفريسيون في أيام الرب له المجد قد اشتكوا من أن تلاميذه لا يصومون فأجابهم الرب بأنهم لا يقدرون أن يصوموا والعريس معهم ولكن متى رُفِع عنهم العريس فحينئذ يصومون في تلك الأيام (مت 14:9،15). هكذا مع اليهود، فقد كان الصوم تعبيراً صادقاً لحالتهم ما دام الرب لم يرجع في مجده ليسكن مرة أخرى في أورشليم، غير أن ذلك الوقت سيأتي وعند ذلك، وليس قبل ذلك، سوف تتحوَّل أصوامهم إلى أعياد وبهجة وتسبيح.
5 – إقامتهم بركة للأمم :
هنا الرب يفسر لهم كيف يكونون بركة ، إذ يقول :
«هكذا قال رب الجنود: سيأتي شعوب بعد، وسكان مدن كثيرة. وسكان واحدة يسيرون إلى أُخرى قائلين: لنذهب ذهاباً لنترضَّى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضاً أذهب. فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم، وليَترَضَّوا وجه الرب» (ع 20-22).
نرى هنا البركة الشاملة التي ستصاحب رجوع الرب إلى شعبه، فسيتمتعون بالبركة تحت حكم مسيحهم. وفي هذه الحالة لا بد أن يصيروا واسطة بركة لكل سكان الأرض. والهيكل الذي سيعود الرب ويبنيه سيصبح مركز جاذبية لكل الشعوب فيذهبون مُسرعين وباستمرار ليطلبوا وجه الرب ويُصلُّوا قدام الرب.
يختم حديثه عن البركة أن يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودى قائلين " .. نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم " . هذه صورة العروس القائلة فى النشيد : " اجذبنى وراءك فنجرى " ، فإذ تنطلق نحو عريسها تحمل معها عشرة أشخاص تقتنيهم للرب بحياتها المقدسة وشهادتها للرب .
+ + +
الأصوام تتحول إلى أعياد
بعد أن قدم لهم درسا مرا من واقع تاريخهم يكشف عن قساوة قلب آبائهم ، عاد ليؤكد لهم غيرته المتقدة نحو أورشليم عروسه . إن كان قد سمح لها بالتأديب القاسى فعاشت فى مرارة لكنه يود أنه يحول حزنها إلى فرح وأصوامها إلى أعياد ، يباركها ويقيمها بركة للأمم . هكذا حول السؤال الذى وجهه أهل بيت إيل بخصوص الصوم إلى الجانب الإيجابى : الكشف عن محبة الله لهم وتحقيق رسالته فيهم بحلوله فى وسطهم كسر فرحهم الداخلى .
1 – غيرة الله على صهيون :
بينما هم يتساءلون عن الصوم الذى فرضوه على أنفسهم بسبب السبى إذا به يدخل بهم إلى أعماقه ليكتشفوا لهيب محبته المتقدة من نحوهم . وكأنه يجيب على سؤالهم بالقول : إنى إله غيور محب لكم ، تلامسوا مع محبتى النارية لتصيروا أنتم أيضا نارا ملتهبة لا تقدر الأحداث أن تطفئها .
يعلن العريس السماوى غيرته على شعبه الراجع من السبى الساقط تحت التأديب بسبب زناه الروحى وإنحرافه :
«وكان كلام رب الجنود قائلاً: هكذا قال رب الجنود: غِرْت على صهيون غيرة عظيمة، وبسخط عظيم غِرْت عليها. هكذا قال الرب: قد رجعت إلى صهيون وأسكن في وسط أورشليم، فتدعى أورشليم مدينة الحق، وجبل رب الجنود الجبل المقدس» (ع 1-3).
موضوع هذا الإصحاح يكشف عن الحق الكامل الخاص بطرق الله نحو أورشليم وبيت يهوذا، بل ومع الإنسان بصفة عامة. لقد رأينا في ختام الأصحاح السابع فشل الشعب وهم تحت المسئولية وما أصابهم من قضاء. أما في هذا الأصحاح فنجد إعلان أغراض الله الثابتة للبركة طبقاً لمقاصد نعمته. وعلى هذا القياس امتحن الله آدم في الجنة ووضعه تحت مسئولية الطاعة كشرط للبركة. وإذ تعدَّى خَسِر كل شيء. وعلى أثر ما تجلَّى من خيبة الأمل أدخل الله رجل مشوراته، نسل المرأة، بوصفه الشخص الذي يُتمِّم الله به كل مقاصد قلبه الأزلية. وهكذا كانت الحال مع إسرائيل، لقد قبلوا مسئولية حفظ الناموس وكانت بركتهم مُعلَّقة على ذلك. غير أن تاريخهم ليس إلا سجلاً لتعدياتهم. وفي الأصحاح السابق يُرينا النبي تصرفات الآباء وكيف أنهم أضاعوا حقوقهم في الأرض بسبب عصيانهم. لكن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة، ولذلك تنتصر نعمته على خطية شعبه بفضل ذاك الذي كان عتيداً أن يموت عن الأمة (يو 51:11) فيستطيع أن يُعْلِن محبته التي لا تتغيَّر لصهيون وأغراضه التي ينفذها لاستردادها ورجوعها. ومن الضروري أن يُدرك القارئ مبادئ طرق الله هذه مع شعبه إذا شاء أن يقرأ الأنبياء بفطنة.
يتميَّز هذا الأصحاح بتكرار عبارة «هكذا قال رب الجنود» وقد يبدو تكرار هذه العبارة مُملاًّ، ولكن ذو الأذن المختونة يجد في التكرار تأكيداً للحق الذي تشتمل عليه الرسالة النبوية. والواقع أن ما من تغيير في الأسلوب أو التعبير إلا وينطوي على تعليم للذهن الروحي.
وعبارة «هكذا قال» تعني أنه ما دام الرب هو الذي قال فقوله حق. ومهما بدا الوعد بعيد المنال أو يفوق الخيال فيجب أن نصدق الله لأنه مُنَزَّه عن الكذب وقادر على كل شيء، وهو يعني ما يقول تماماً، كما قال الرسول في رسالة رومية عن إيمان إبراهيم: «.. أمام الله الذي آمن به، الذي يُحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة .. ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوَّى بالإيمان مُعْطِياً مجداً لله. وتيقن أن ما وعد به هو قادرٌ أن يفعله أيضاً» (رو 17:4-21).
أما عبارة «رب الجنود» فتعني أنه رب القدرة، رب القوات، الذي كل جند السماء والأرض تحت سلطانه، وإذا قال فعل ولا توجد قوة تقف أمام تنفيذ مقاصده الصالحة نحو مختاريه، وتكرار هذا التعبير يدل على زيادة التأكيد.
يُفْتَتَح الأصحاح ببشارة مُفرحة، ليست هي بشارة إنجيل نعمة الله، بل بشارة البركة لصهيون، بشارة الملكوت، لأن بشارة الإنجيل ليست موضوع نبوات العهد القديم، وذلك لأن الكنيسة التي بدأ تكوينها من اليهود والأمم في يوم الخمسين كانت سراً كما يُشير إلى ذلك الرسول بولس قائلاً: «إنه بإعلان عرفني بالسر .. الذي في أجيال أُخَر لم يُعَرَّف به بنو البشر، كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح: أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل» (أف 3:3-6) والكنيسة هي عروس المسيح السماوية، وباكتمالها يتم اختطافها للسماء. وعندئذ تنتهي فترة البشارة بإنجيل نعمة الله وتبدأ بشارة الملكوت (مت 7:10،23) والمُشار إليها هنا.
2 – حلول البركة والسلام :
كأن الله يقول لشعبه : الآن يوجد ما هو أهم من التساؤل إن كنتم تصومون أم تتوقفون عن الصوم الخاص بالسبى ألا وهو إدراك مركزكم الجديد بعد أن أقمتكم كأورشليم الجديدة ، مدينة الحق ، وجبل صهيون الجديد ، جبلى المقدس ... تأملوا عطاياى ونعمى وتمسكوا بها . إن صمتم نائحين أو عيدتم فرحين فليكن فيكم هذا الهدف أن أسكن فيكم فتحل بركتى عليكم وتنعمون بسلامى الفائق .
«هكذا قال رب الجنود قائلاً: سيجلس بعد الشيوخ والشيخات في أسواق أُورشليم، كل إنسان منهم عصاه بيده من كثرة الأيام. وتمتلئ أسواق المدينة من الصبيان والبنات لاعبين في أسواقها» ( ع 4 ، 5 )
من الجانب الحرفى ، إذ يحل الله فى وسطهم يمتلئون أياما صالحة ويحل السلام فيهم فلا يفاجئهم الموت فى شبابهم بل يعيشون حتى الشيخوخة ، مملوئين صحة إذ ينزلون إلى أسواق المدينة يشترون إحتياجاتهم ممسكين كل واحد عصاه بيده .
أما من الجانب الرمزى فأسواق أورشليم التى يجلس فيها الشيوخ والشيخات هى فيض الحكمة الذى ينساب كنهر يفرح مدينة الله ( مز 46 : 4 ) .
وجود الصبيان والبنات أيضا فى الأسواق يلعبون إنما يشير إلى الطمأنينة التى سادت على الجميع وعدم توقع وجود حرب تنزع الفرح عن الكبار والصغار .
وهناك ملحوظة جديرة بالانتباه وهي المقارنة بين صورة ما فعلته الخطية في نفس شوارع أورشليم وبين الحالة التي رأيناها والتي ستكون في شوارع أورشليم مستقبلاً. ففي مراثي إرميا نقرأ عن الصورة المُحْزِنة التي كانت في شوارع المدينة: «عَذَارَاى وشُبَّانِي ذهبوا إلى السبي .. كهنتي وشُيوخي في المدينة ماتوا، إذ طلبوا لذواتهم طعاماً ليَرُدُّوا أنفسهم .. في الخارج يَثكُل السيف، وفي البيت مثل الموت» (مرا 18:1-20)، وأيضاً «شيوخ بنت صهيون يجلسون على الأرض ساكتين. يرفعون التراب على رؤوسهم. يتنطَّقون بالمُسُوح. تَحْنِي عَذَارَى أورشليم رؤوسهن إلى الأرض. كَلَّت من الدموع عيناي. غَلَت أحشائي. انسكَبَت على الأرض كبدي على سحق بنت شعبي، لأجل غَشَيان الأطفال والرضع في ساحات القرية. يقولون لأمهاتهم: أين الحنطة والخمر؟ إذ يُغْشَى عليهم كجريح في ساحات المدينة، إذ تُسْكَب نفسهم في أحضان أُمهاتهم» (مرا 10:2-12). ما أبعد الفرق بين هذه الصورة الحزينة وبين الصورة البهجة!
هذا العمل الإلهى فى حياة جميع أعضاء الكنيسة يبدو شبه مستحيلا ، إذ يقول النبى :
«هكذا قال رب الجنود: هأنذا إن يكن ذلك عجيباَ في أعين بقية هذا الشعب في هذه الأيام،
أفيكون أيضاَ عجيباً في عينيَّ؟ يقول رب الجنود» (ع 6).
سيكون إتمام هذا الوعد مبعث دهشة لمن يشاهدونه. وإذا كان هذا عجيبًا عندهم لأنه صعب المنال لكنه ليس عجيبًا في عيني الرب لأنه ليس عند الرب مستحيل، وهذا يذكرنا بكلام الرب لسارة عندما قالت: «أبعد فنائي يكون لي تنعّم، وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة .. هل يستحيل على الرب شيء؟» (تك 12:18-14).
إذ يجتمع شعب الله من كل الأمم بقلب واحد تكون له الأيدى المتشددة القوية القادرة بالرب على بناء الهيكل :
«هكذا قال رب الجنود: لتَتَشدَّدْ أيديكم أيها السامعون في هذه الأيام هذا الكلام من أفواه الأنبياء الذي كان يوم أُسِّس بيت رب الجنود لبناء الهيكل. لأنه قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أُجرة ولا للبهيمة أُجرة، ولا سلام لمن خرج أو دخل من قبل الضيق. وأطلقت كل إنسان، الرجل على قريبه» (ع 9، 10).
إن كنا قد سمعنا من أفواه الأنبياء عن تأسيس بيت رب الجنود أى عن التجسد الإلهى ، إذ يدعو الرب نفسه جسده هيكلا ، فإن هذا التجسد يهب قوة لأيدينا للعمل به ، فتتحول الوصية الإلهية فى حياتنا إلى حياة عملية معاشة .
لقد أقام الله هذا الجسد ، إذ قيل : " الحكمة بنت بيتها " ( أم 9 : 1 ) . فصار الله حالا فى وسطنا ويهبنا إمكانياته السماوية للعمل لحساب ملكوته .
إلتقاؤنا مع الإله المتجسد ، وسكناه فى وسطنا لم يشدد الأيدى بإمكانياته الإلهية العاملة فينا فحسب ، وإنما قطع روح اليأس الذى فينا وألهب أعماقنا بالرجاء . فالعمل لا يحتاج فقط إلى الأيدى القوية والجهاد والمثابرة وإنما أيضا إلى الروح المملوء رجاء فى الرب لهذا يقول :
" لأنه قبل هذه الأيام لم تكن للإنسان أُجرة ولا للبهيمة أُجرة، ولا سلام لمن خرج أو دخل من قبل الضيق. وأطلقت كل إنسان، الرجل على قريبه " .
لقد أحاط الضيق بهم مما جعل الإنسان كما الحيوان بلا قيمة حتى إن عملا شيئا فبلا نفع ولا يستحقان أجرة ! لقد كانت أورشليم خربة كالبرية ، ويحكمها الغرباء ، فكل مجهود يقوم به الإنسان لا يجدى شيئا .
هذه صورة مرة للبشرية خارج عمل الله ، إنها تخرج للعمل وتدخل لتقدم حسابا فتجد نفسها فى فراغ وبلا ثمر ولا تستحق المكافأة إذ إنشغل كل واحد بمقاومة أخيه
«أما الآن فلا أكون أنا لبقية هذا الشعب كما في الأيام الأولى، يقول رب الجنود. بل زرع السلام، الكرم يُعطي ثمره، والأرض تُعطي غلتها، والسماوات تُعطي نداها، وأُملِّك بقية هذا الشعب هذه كلها» (ع 11، 12).
يا لها صورة مبهجة بعد أن كان الإنسان يعمل بلا تعقل كالحيوان فلا يكون له أجرة ، إذ تفقد النفس ( الإنسان ) ثمرتها كما يفقد الجسد ( الحيوان ) قدسيته ، ويقاوم أحدهما الآخر ، الآن إذ يسكن الرب فيه ، ليس فقط تنعم نفسه بالأجرة وإنما جسده أيضا ويكون بينهما وفاق روحى ويصير له ثمر روحى فائق ، تعمل الأرض كما السماء لحسابه فى الرب .
3 – تذكيرهم بالوصية :
وسط هذه البركات التى تحل فى حياتهم بسكنى الرب فيهم التى تبدو كأنها مستحيلة ( ع 9 ) . يناشدهم بالتمسك بالوصية الإلهية حتى لا يسقطوا تحت غضبه كآبائهم .
«هذه هي الأمور التي تفعلونها. ليكلِّم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم. ولا يُفكِّرَن أحدٌ في السوء على قريبه في قلوبكم. ولا تحبوا يمين الزور. لأن هذه جميعها أكرهها، يقول الرب» (ع 16، 17).
يجب أن نعلم أن هذه الصفات هي صفات المُبَارَكِين الراجعين إلى الأرض، وليست شروطاً، لأنه لو كانت هناك شروط فستتبعها اللعنة مرة أخرى، إنما هذه هي ثمار نعمة الله وصدى محبته وإحسانه لهم. فالأمة كانت قد أضاعت كل شيء وهي تحت المسئولية. لكن الله على أساس موت المسيح بالبر سينفذ بالبر كل الخير الذي تكلَّم به نحو شعبه غير أن النبي يُذكِّر البقية في الأرض أن تمتعهم بالوعد المُعْطَى في الأعداد من 11-13 وتحقيق رضى الله المرتبط بتنفيذ مقاصده من نحوهم، كل ذلك مُطابق لقداسته ومحبته ونعمته.
صحيح أن كل ما سيُحَصَّل عليه هو بالنعمة، غير أن التمتع العملي بالبركات المكفولة في المسيح يتوقف على الناحية العملية. وكأن النبي يريد أن يقول لهم: إن الله يريد أن يُبارككم ويجب عليكم أن تتحلُّوا بصفات الذين يُبارِكهم الله. وهذه التحريضات العملية تؤثر على علاقاتهم المُتبادلة، فعليهم أن يتكلموا بالحق كل واحد مع الآخر كما يقول الرسول: «لذلك اطرحوا عنكم الكذب، وتكلَّموا بالصدق كل واحد مع قريبه» (أف 25:4) وعليهم أن يقضوا قضاء الحق والسلام في أبوابهم لأن صنع العدل والحق هو أبداً سلام «ويكون صُنْعُ العدل سلاماً، وعَمَلُ العدل سُكوناً وطُمأنينة إلى الأبد» (إش 17:32) وعليهم ألا يفكروا بالسوء كل واحد مع أخيه. والواقع أنهم لن يفعلوا هكذا إلا إذا كانوا يُحبُّون إخوتهم كما يحبون أنفسهم كما يقول الرسول بولس: «المحبَّة لا تصنع شراً للقريب» (رو 10:13). وعليهم أن يمتنعوا عن الأقسام الباطلة، وقد سبق النبي وأعلن أن اللعنة تدخل بيت الحالف باسم الرب زوراً وتبيت في وسط بيته وتفنيه مع خشبه وحجارته (زك 4:5).
وخُلاصة القول يجب على الذين يُريدون التمتع بالبركة أن يكونوا في شركة مع فكر الرب تجاه هذه الأمور وأن يُبغضوا الشرور لأنها مكروهة من الرب كما يتضح من قول المُرَنِّم: «يا رب مَنْ ينزل في مسكنك؟ مَنْ يسكن في جبل قدسك؟ السالك بالكمال، والعامل الحق، والمُتكلِّم بالصدق في قلبه. الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شراً بصاحبه، ولا يحمل تَعييراً على قريبه. والرَّذِيل مُحتَقَرٌ في عينيه، ويُكْرِم خائفي الرب. يَحْلِف للضرر ولا يُغَيِّر .. الذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الدهر» (مز 15)
4 –الأصوام تتحول إلى أعياد
«وكان إليَّ كلام رب الجنود قائلاً: هكذا قال رب الجنود: إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً وأعياداً طيبة. فأحِبُّوا الحق والسلام» (ع 18، 19).
كانت حياتهم الماضية قد اتسمت بالصوم مع النوح بسبب ما حل بهم من تأديبات بسبب خطاياهم ، والآن إذ يحل الرب فى وسطهم ويعلن سكناه فيهم يحول قلوبهم إلى الفرح وحياتهم إلى عيد لا ينقطع هكذا المسيحى الحقيقى وسط أصوامه والآمه إذ يدرك حلول الله فيه لا ينقطع عنه الفرح الداخلى ولا يتوقف العيد عن حياته .
هنا يعود الرب فيُعطِي النبي رسالة أخرى يبدأها بما يتعلَّق بالأصوام. لقد أجاب الرب في الأصحاح السابع عن الأصوام، وكان رد الرب رداً سلبياً، حيث أوضح لهم أن صومهم لم يكن صوماً للرب بل كان في حالة المظاهر الشكلية. أما هنا فيُعطي الرب الجواب الإيجابي المُطابق لفكره من نحو البركة، وهو تحويل هذه الأصوام إلى أعياد وأفراح وابتهاج. وهذه الأصوام جميعها كان لها صلة بحصار أورشليم وخرابها كما نرى على النحو التالي:
1- صوم الشهر الرابع: يُشير إلى حصار أورشليم الثاني بواسطة نبوخذنصر، وفتح أبوابها له، أي أنه في هذا الشهر أُخِذَت المدينة «وفي السنة الحادية عشرة لصدقيا، في الشهر الرابع، في تاسع الشهر فُتِحَت المدينة. ودخل كل رؤساء ملك بابل .. » (إر 2:39،3).
2- صوم الشهر الخامس: يُشير إلى حرق المدينة والهيكل كما نرى في سفر الملوك الثاني «وفي الشهر الخامس، في سابع الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذنصر ملك بابل، جاء نَبُوزَرَادَان رئيس الشرط عَبْد مَلِك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت المَلِك، وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء وأحرقها بالنار» (2مل 8:25-10).
3- صوم الشهر السابع: يُشير إلى قتل جدليا بن أخيقام بن شافان حاكم الأرض كما هو مذكور في سفر الملوك الثاني «وفي الشهر السابع جاء إسماعيل بن نثنيا بن أليشمع من النسل الملكي، وعشرة رجال معه وضربوا جدليا فمات ..» (2مل 25:25).
4- صوم الشهر العاشر: يُشير إلى الحصار الأول الذي حُوصرت فيه أورشليم كما نرى في سفر إرميا «وفي السنة التاسعة لملكه، في الشهر العاشر، في عاشر الشهر، جاء نبوخذنصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزلوا عليها وبنوا أبراجاً حواليها. فدخلت المدينة في الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا» (إر 4:52،5).
فكل هذه الأيام كانت تحمل لليهودي تذكارات حزينة تُعِيد إلى ذهنه، ليس فقط النكبات القومية، بل أيضاً غضب الرب. فمُمارستهم لهذه الأصوام كانت دليلاً على الحزن والألم، كما يعترفون على أن كثيرين منهم كان قد أعياهم الصوم وطلبوا جَوَاباً من الرب. ورأينا إجابة الرب لهم في الأصحاح السابق، تلك الإجابة التي كشفت لهم عن التأديبات المُرعبة التي أصابت الأمة، وفي الوقت ذاته وضع الرب قدامهم شرط البركة. أما هنا في هذا الأصحاح فنرى الرب له المجد يبعث إليهم بزكريا ليقول لهم إنه سيأتي الوقت الذي ستصير فيه كل الأصوام فرحاً وبهجة وأعياداً طيبة. صحيح أن هذا الوقت لم يكن قد جاء بعد، لكنه آتٍ بكل يقين، وإلى أن يأتي، يجب أن يكون الصوم تعبيراً صحيحاً عن حالتهم. لكن في ذلك الوقت سوف يُعطيهم الرب «جَمَالاً عِوضاً عن الرماد، ودُهن فرح عِوضاً عن النوح، ورداء تسبيح عِوضاً عن الروح اليائسة» (إش 3:61). كان الفريسيون في أيام الرب له المجد قد اشتكوا من أن تلاميذه لا يصومون فأجابهم الرب بأنهم لا يقدرون أن يصوموا والعريس معهم ولكن متى رُفِع عنهم العريس فحينئذ يصومون في تلك الأيام (مت 14:9،15). هكذا مع اليهود، فقد كان الصوم تعبيراً صادقاً لحالتهم ما دام الرب لم يرجع في مجده ليسكن مرة أخرى في أورشليم، غير أن ذلك الوقت سيأتي وعند ذلك، وليس قبل ذلك، سوف تتحوَّل أصوامهم إلى أعياد وبهجة وتسبيح.
5 – إقامتهم بركة للأمم :
هنا الرب يفسر لهم كيف يكونون بركة ، إذ يقول :
«هكذا قال رب الجنود: سيأتي شعوب بعد، وسكان مدن كثيرة. وسكان واحدة يسيرون إلى أُخرى قائلين: لنذهب ذهاباً لنترضَّى وجه الرب ونطلب رب الجنود. أنا أيضاً أذهب. فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم، وليَترَضَّوا وجه الرب» (ع 20-22).
نرى هنا البركة الشاملة التي ستصاحب رجوع الرب إلى شعبه، فسيتمتعون بالبركة تحت حكم مسيحهم. وفي هذه الحالة لا بد أن يصيروا واسطة بركة لكل سكان الأرض. والهيكل الذي سيعود الرب ويبنيه سيصبح مركز جاذبية لكل الشعوب فيذهبون مُسرعين وباستمرار ليطلبوا وجه الرب ويُصلُّوا قدام الرب.
يختم حديثه عن البركة أن يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودى قائلين " .. نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم " . هذه صورة العروس القائلة فى النشيد : " اجذبنى وراءك فنجرى " ، فإذ تنطلق نحو عريسها تحمل معها عشرة أشخاص تقتنيهم للرب بحياتها المقدسة وشهادتها للرب .
+ + +
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق