زوجة بيلاطس «إياك وذلك البار لأني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله»
مقدمة أليس للمرأة أن تتنيه وتفخر على الرجل كلما قرأت قصة الإنجيل؟ أليس لها وهي توازن بينها وبين الرجل في علاقتهما بالمسيح أن تشيد ترنمًا لأنها عاملته معاملة أحسن وأنبل وأجل؟ لقى المسيح من الرجال فصولاً متعددة ليس فيها ما يشرف الرجولة في شيء!! وجد منهم من تبعه قليلاً ثم ارتد عنه!! من أكل خبزه ثم رفع عقبه عليه!! من ضفر له إكليل الشوك وألبسه رداء السخرية، وتفل عليه ومثل به!! أجل.. رأى المسيح من الرجال الهازيء والساخر ومنكر الجميل، وحتي تلاميذه الأوفياء ابتعدوا عنه وولوا يوم الصليب. وأشجعهم أقسم أنه ما عرفه أو اتصل به!!.. أما المرأة فما أجلها وأنبلها وأرقها وألطفها في معاملتها له! وهل تجد امرأة واحدة في كل الإنجيل امتهنته أو احتقرته أو أساءت إليه؟ كلا... لقد وجد منهن كل ولاء وتوقير وتعبد!! وجدهن دائمًا أقرب إليه وإلى قلبه وفكره ومشاعره وإحساسه... في بيت سمعان الفريسي وجد من الرجل خشونته ومن المرأة تعبدها!! وفي بيت سمعان الأبرص أبصر من التلاميذ غيظهم ومن مريم طيبها، وأورشليم، تلك المدينة الخالدة في مأساتها الآثمة الشريرة، ألم نسمع رجالها يقولون أصبلة، بينما سارت بناتها وراءه حزينات باكيات يلطمن وينحن عليه. هذا الفرق البعيد سنبصره اليوم واضحًا خالدًا مخيفًا أبديًا بين بيلاطس وزوجته.. في كل الأجيال تدوي هذه الكلمة المرعبة المخيفة: «بيلاطس البنطي الذي حكم على يسوع» ويقف هذا الرجل الروماني على رأس أكبر جريمة عرفها التاريخ مصفد اليدين بأغلال أنانيته وشره وقسوته، اليدين اللتين حاول في ضعف ورياء وجبن أن يغسلهما من أزكى دم جرى على هذه الأرض، بينما تقف - في الجانب الآخر - زوجته النبيلة الرائعة تجاهد ما استطاعت لتخرجه وتبعده عن هذه التبعة الثقيلة القاسية: أي كلوديا بروكولا! أي أيتها الزوجة العظيمة أن عواطفي تستحثني دائمًا أن أصدق ما قيل عنك في التقليد أنك أصبحت مسيحية.. وما ذكرتك ألا وذكرت حكمة مولاي الصادقة: يكون اثنان على فراش واحد يؤخذ الواحد ويترك الآخر.. لقد سموت أنت بعظتك إلى السماء، وهوى هو إلى أعماق الجحيم، وعذابه الأكبر إنه لم يستمع إلى نصيحتك المحذرة.. أكاد أسمعه ينادي السماء أن ترسل كلوديا بروكولا لتبل طرف اصبعها بماء وتبرد لسانه لأنه معذب في اللهيب.. ولكن هيهات!! لقد استوفى كل أجره.. وقررت الأرض مصير الاثنين الأبدي، كل حسبما اتجه وسار. هذه هي المرأة التي أريد أن تتأملها الآن بنعمة الله في كلمتين: من هي؟ ما مواقفها العظيمة؟ من هي زوجة بيلاطس؟ لعلنا أقرب في تقصي قصة هذه المرأة إلى علماء الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي الذين يظفرون بحقائق واسعة من معلومات صغيرة، فما نعرفه عنها لا يتعدي بضعة سطور كتبها التقليد، وآية واحدة في إنجيل متى، غير أن هذه الآية وتلك السطور ترسم لنا في وضوح وجلاء ملامح وجه رائع جميل، يقولون إن اسمها كلوديا بروكولا، رومانية الجنس وأغلب الظن أنها كزوجة لوال ممتاز كانت امرأة تنتمي إلى الطبقة الارستقراطية العلية كما لابد أنها كانت على حظ وفير من المعرفة والعلم، والذي يبدو لنا من تتبع قصتها إنها كانت رفيعة النفس سامية الخلق، وهذا يظهر من اصطحابها لزوجها وتغربها معه الأمر الذي لم يكن يجيزه القانون الروماني إلا في أعسر الأحوال وأشدها استثناءا، فإن أوغسطس قيصر أصدر أمرا بتفضيل الوالي الأعزب على المتزوج، وضرورة بقاء زوجته في أرض الوطن إن كان متزوجًا، وقد أبقى طباريوس قيصر على هذا القانون وإن كان قد خفف من غلوائه، وتسامح في تطبيق نصوصه، ولعل القصد من قانون كهذا هو بعض ما يقصده القانون الإنجليزي الذي يمنع البحار من مصاحبة زوجته له أثناء عمله، لئلا تصرفه عن واجبه أو تعوقه عن إتمامه، أو ما تذهب إليه بعض الدول من تحريم زواج سفرائها بالأجنبيات حرصًا على نزاهة خدمتهم وخلوها من كل شائبة وشبهة ولعلك تعجب إذ تعلم أن أكثرية الولاة الرومانيين كانوا يسرون بهذا القانون ويستريحون إليه إذ كان يعفيهم من رقابة زوجاتهم البغيضة، ولعلك تعجب أكثر عندما تعلم أن الزوجات بدورهن كن لا يجدن غضاضة في تقبله والترحيب به في عصر فاض بالخلاعة والمجون والاستهتار والبعد عن الأمانة الزوجية، لكن زوجة بيلاطس لم تكن من هذا الصنف الوضيع بل كانت زوجة شريفة تحب زوجها وتخلص له وتحرص على راحته وعدم مفارقته أينما سار وأني توجه، ولعلها جاهدت كثيرًا حتى أعفيت من تطبيق هذا القانون عليها، كما يظهر أنها كانت ذات طبيعة رقيقة شاعرية حساسة، وحلمها ينبيء إلى حد كبير عن مبلغ رقتها وشاعريتها واحساسها، والأحلام كما يقول رجال النفس إن هي إلا انعكاس طبائعنا وعقلياتنا وغرائزنا، ولئن كان هذا الحلم وحيًا إلهياً خالصاً، فإننا نعلم أن الله يوحي إلى النفوس دائمًا على أساس طبيعتها واستعدادها وانتظارها، ويصور لها ما يريد في صورة أقرب إلى تقديرها وتفكيرها وشعورها وتصورها، فيوسف الصديق في صبوته الساذجة البريئة المشبوبة الرؤى جاءته رسالة الله في صورة حزم تقوم وتسجد لحزمته الواقفة المنتصبة، والشمس والقمر والنجوم تتعبد له وتنحني أمامه، ورئيسا الخبازين والسقايين عرفا كل مصيره مما يتصل بطبيعه عمله وصناعته، ونبوخذنصر الملك العظيم رأى أمامه في رؤى الليل تمثالاً عظيمًا يحطمه حجر قطع بدون يدين، أو شجرة وارفة زاهية مزهرة ينزل عليها قضاء الله من السماء، وبطرس الجائع أبصر أمامع ملاءة عظيمة مربوطة وفيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء، وبولس النازع إلى التبشير والمشوق إليه جاءه في دجى الليل رجل يستغيث: أن اعبر إلى مكدونية واعنا. ولذا فنحن نظن أن المرأة التي تتألم كثيرًا في حلم من أجل بار تعبر لنا بألمها عن نفس إنسانية رقيقة القلب مرهفة الشعور، كما يخيل إلينا أنها كامرأة رومانية أخذت عن الطبع الروماني حب العدالة الذي يجعلها تقف لمناصرة الحق وتأييده مهما تكن الظروف، هذا الحب الذي تمكن من بروتس القاضي الروماني فحكم على ولديه بالإعدام حيث ثبتت إدانتهما، وإن عجز كأب أن يرى موتهما عند التنفيذ.. ومن أجل هذا وقفت هذه المرأة إلى جانب المسيح في وقت عز فيه الوقوف على كثيرين. ما مواقفها العظيمة؟ لهذه المرأة ثلاثة مواقف عظيمة فهي: «الزوجة المحذرة لزوجها، الزوجة الواقفة إلى جانب المسيح، الزوجة التابعة للمسيح». الزوجة المحذرة لزوجها لعل أقوى الأصوات التي رنت في قلب بيلاطس كان صوت زوجته، فلا أظن أن هذا الرجل كان يبغض امرأته أو ينفر منها، بل لعلها كانت عنده مدللة محبوبة عزيزة الجانب وهنري ملفيل يؤمن إن الله إرسل تحذيره إلى بيلاطس عن طريق زوجته لأن مجيئه منها أوقع في قلبه وآثر إلى نفسه... إن صوتها هو الصوت الرقيق العطوف الذي شاءت عناية الله أن يرن في جوانب نفسه الموحشة القلقة برنينه العذب الساحر عساه أن يدفع عنه ما يوشك أن يفعل، والمصير الذي يخشى أن يتجه إليه، إنه ذلك التوازن الذي يحدثه الله في حياتنا حتى لا تطغي علينا قوى الشر، إنه ذلك الملاك الذي يوقفه الله إلى جانبنا في الوقت الذي يقف فيه الشيطان إلى الجانب الآخر. نحن لا نعلم ماذا رأت المرأة في حلمها؟ وماذا آلمها؟ أيرجع الأمر إلى أنها رأت كما يظن البعض مأساة الصليب قبل أن تتم بصورتها المفزعة الرهيبة فلم تتحمل المنظر؟ قد يكون هذا... ومن يرى المسيح المصلوب دون أن ترق نفسه وتتألم وتعطف !!... ماثيو ارنولد الرجل الذي انحنى على إيمانه يبكيه، لم يمكنه أن يقف من «الإنسان المتوج بإكليل الشوك» دون أن يذخر بإحساس الهيبة والخشوع للملك العظيم المتألم، وجوته شاعر الألمان في كتابه «اعترافات نفس جميلة» يرينا نفسه وقد هدمت بها أحزان ثقيلة ورانت عليها هموم وأوجاع متعددة، فجلس واضعًا رأسه بين يديه على مائدة، وفي تلك الساعة الصامتة الحزينة، ارتقى بفكره إلى الجلجثة، إلى ذلك مات الذي من أجله، ورآه في نبله وحبه وجوده يأخذ مكانه في الخطية والدينونة والحكم، فلم يستطع إلا أن يغرق عذاباته في عذابات ابن الله، وإلا أن تفيض نفسه بأقوي المشاعر وأنبلها وأقدسها... على أن حلمها قد يكون أيضًا كما تخيلها مصور مشهور في صورة أبدعها، وفيها يرينا إياها واقفة في شرفة واسعة تحدق في الفضاء البعيد وإذا بها ترى مواكب الأجيال المتعاقبة تسير وفي مقدمتها المسيح حاملاً الصليب، ومن ورائه الاثنا عشر تلميذًا، فالكنيسة في العصر الرسولي والعصور الأولى بأبطالها بوليكاربوس وترتليانوس واثناسيوس وغريغوري وفم الذهب وأوغسطينوس، وخلفهم الكنيسة في العصور الوسطى والصليبيون في ملابسهم الزاهية ووراءهم كنيسة العصر الحاضر وملايين لا تعد ولا تحصى من البشر، وتحف بالجميع كوكبة هائلة من ملائكة الله، وتدهش زوجة بيلاطس إذ ترى الصليب يتحول شيئًا فشيئًا حتى يضحى كوكبًا جميلاً بارعًا يملأ السماء ويفيض بأنواره المتلالئة على الكون، وهناك من قال إنها أبصرت يوم الدينونة، وقد انقلبت الأوضاع، وجلس المسيح على كرسيه يدين الشعوب، وإذا بيلاطس يأتي أمامه مرعوبًا مرتعدًا مصفدًا، قد يكون هذا أو ذاك أو غيره، إن الذي يعنينا فقط من حلمها هو الأثر الذي تركه فيها، والرسالة التي أوحى بها إليها لقد أشفقت على زوجها، ففعلت ما تفعله كل زوجة عظيمة نبيلة تدرك مسؤوليتها في الحياة، إذا أرسلت إليه تحذره وتجنبه مسؤولية صلب المسيح، حقاً إن الزوجة كما دعاها أحدهم الضمير الثاني للإنسان، وكم فعل هذا الضمير في تاريخ البشرية؟ اذ رفع صاحبه إلى المجد أو هوى به إلى الحضيض، قاده إلى الخير أو دفعه إلى الشر، سار به نحو الفضيلة أو نحا به نحو كل موبقة وإثم.. في أحد أبهاء قصر من قصور البندقية هناك صورة كبيرة رسمها مصور كاثوليكي للسماء والمطهر والجحيم، وقد رسم زوجته في هذه الصورة في أوضاع ثلاثة. في الوضع الأول العلوي، في السماء، ترتدي ثوبًا أزرق جميلاً ناصعًا، وقد فاضت بالدعة والنور والإشراق والابتسام والوجه الملائكي، وفي الثاني الأوسط، في المطهر كما تحدثه عقيدته، تبدو في مظهر المرأة العادية التي لا شيء يستلفت النظر إليها، وفي الوضع الأخير السفلى، في الجحيم، تظهر في هيئة مخيفة مرعبة، ينبعث الشرر واللهب من عينيها المتقدتين. ولعل هذا المصور قد أراد أن يحدثنا عن تاريخ علاقته الشخصية بزوجته، ففي بدء زواجهما عاشا أياما قصيرة هانئة سماوية، انحنت فيها زوجته عليه بكل عطف ورقة واشفاق وجود، على أن شيئاً من الخلاف والفرقة دب بينهما فأضفى على علاقتهما نوعًا من الضعف والملل والفتور، الذي لم يلبث أن انتهي بحياة هذا المصور إلى التعاسة والشقاء، إذ أضحت حياته الأخيرة مأساة قاسية، كانت فيها زوجته جلاده وشيطانه ومعذبه الأكبر. إذا استعرضنا سير الوحي وقصص التاريخ البشري رأينا لذلك أمثلة عديدة بارزة يعوزنا الوقت في جمعها وحصرها، أليست سارة ورفقة وراحيل وراعوث وأليصابات وحنة وبريسكلا ومسز برواننج التي أنقذنها محبة زوجها من مرض عضال فأوقدت فيه العبقرية والإحساس والشاعرية، ألسن هؤلاء ومن على غرارهن أمثلة طيبة لما يمكن أن تفعله الزوجة المحبة الحنون، بينما في الحين نفسه تقف زوجة شمشون ونساء سليمان وإيزابل وسفيرة وهيروديا ودروسلا وبرنيكي ومن على شاكلتهن أمثلة سيئة لما يمكن أن تفعله المرأة الشريرة في زوجها. إن أول واجبات الزوجة أن تقف في طريق زوجها لتمنعه من الاندفاع وراء الشر أو الغواية أو الإثم. الزوجة الواقفة إلى جانب المسيح أذكر أن اسبرجن كان يتأمل مرة الآلام الهائلة التي عاناها مخلصنا يوم الصليب، وقد اشتد به الحزن وضاقت نفسه، وهو يرى مولانا في عذاباته الهائلة وكأنما يصيح في لغة نبوته القديمة: «أما إليكم يا جميع عابري الطريق تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني الذي صنع بي الذي أذلني به الرب يوم حمو غضبه». لقد مثلت ساعتئذ أمام الواعظ الكبير تفاصيل الصلب المخيفة، حتي لم يعد يحتمل منظرها فصاح فزعًا: مولاي إنني لا أستطيع أن أبصر كل هذا! ترفق بي فإن هذا كثير على! وفي تلك اللحظة أطل عليه وجه رائع جميل، وجه ندى بالحنان، فائض بالعطف، رائع بالحسن، يهتف بكلمات تسيل رقة ودعة وعذوبة، وجه أنساه الألم العميق الذي ران على قلبه وضغط عليه، وكان هذا الوجه وجه زوجة بيلاطس التي وقفت إلى جانب السيد بكلمتها العظيمة الخالدة: «اياك وذاك البار». ألا ما أجل هذه العبارة السامية تلفظها هذه السيدة الكريمة في هذا الموقف الدقيق! سنذكر بكل امتنان بنات أورشليم اللواتي سرن وراءه يبكين وينحن عليه، فنثرن بذلك في طريق الألم والصلب أجل زهور بعثها القلب الإنساني الرقيق!! ولا نمل أبدًا أن نجد في شهادة اللص التائب أروع الشهادات وأعظمها وأنبلها!! وسوف تتحدث بكل تقدير وتوقير وإعجاب عن قائد المئة الذي أخذ بجلال موت المسيح فهتف حقًا كان هذا الإنسان باراً، كل من قدم خدمة لمولانا يوم الصليب سنذكرها بكل شكر وعرفان ولكننا لن ننسى أن نذكر قبلها جميعاً شهادة زوجة بيلاطس ذلك لأنها كانت أسبق الكل في الوقوف إلى جانب مولانا. وأجرأ الشهود وأشجعهم عامة هو الشاهد الذي يقف في الطليعة في طريق العاصفة ولا يحنى رأسه، فيشجع الجنباء والمرددين على الاحتذاء والمشابهة، كما أنها المرأة التي غلبت صوت ضميرها على أمر القانون الروماني الذي كان يحرم تحريمًا باتاً أي إشارة أو وإيعاز يأتي إلى القاضي حين يجلس في منصة القضاء، كما كان يفرض أشد العقوبات على من يحاول ذلك، وبذا أظهرت أن قانون الضمير للنفس النبيلة هو أعلى من أي قانون بشري، وأن النفوس التي لا تخطيء ضد الضمير هي أنبل النفوس إطلاقًا على هذه الأرض، كما ينبغي ألا يغيب عن الذهن ارستقراطية هذه المرأة والارستقراطيات بحكم مركزهن قلما ينزلن إلى ميدان الخدمة والبذل، ألم يشتك عاموس قديمًا من بقرات باشان، السيدات اللواتي لا يعرفن سوق الأكل والشرب واللهو والاضطجاع على أسرة العاج؟ لكن زوجة بيلاطس لم تكن كذلك، بل كانت الرائدة الأولى لكل المترفات اللواتي لفظن حياة التنعم والدعة والمسرات، ووقفن إلى جانب السيد وفي سبيل خدمته. أيتها السيدات الغنيات في كنيستنا، آني أفخر بالكثيرات منكن لروح الشهادة عندكن ولكني أخشى أن توبخ زوجة بيلاطس أغلبكم، كم مرة أهين المسيح أماكن ولم ترفعن أدنى صوت احتجاجاً؟ كم مرة وقف المسيح ليحكم عليه بضعة حقيرة من الناس والدهماء دون أن تسمع منكن كلمة دفاع واحدة؟ كم مرة صمتن عن الشهادة معتذرات بأنكن لا تستطعن مناهضة التيار الجارف؟ كم مرة حاولتن اسكات الضمير بأن كلمتكن لن تجد من يصغي إليها وستذهب مع الهواء هباء؟ اذكرن امرأة بيلاطس تجدن أسبابًا كثيرة لشجاعة الشهادة وقوتها وعظمتها وروعتها.. الزوجة التابعة للمسيح في رواية التقليد قصة شائقة عن هذه المرأة وجدت سندها عند كثيرين من الآباء الأولين، إنها حين جاءت مع زوجها إلى بلاد اليهودية فتنت بديانة اليهود وأحست بقوتها وجمالها وسموها على الديانات الوثنية فآمنت بها وتهودت، كما أنها تابعت بإعجاب وشغف حياة المسيح وتعاليمه ومعجزاته، وأحد الكتاب يصور لنا بأسلوبه الخيالي الرائع هذه المرأة المفتونة بالسيد ترسل وراءه رسلها أينما ذهب ليأتوها بأخباره وأعماله ومعجزاته وتعاليمه، ولقد روعها حقًا أن يتردى زوجها في الجريمة البشعة جريمة تسليمه المسيح للصلب، وقد قيل أنها آمنت بقيامته كما تابعت تعاليم التلاميذ مدة الستة الأعوام التي قضتها في اليهودية مع زوجها بعد صلب مخلصنا، أما هذا الزوج فقد كانت حياته الأخيرة سلسلة من التعب والشقاء والآلام، فقد خلعه الإمبراطور من منصبه لجرائمه المتكررة، ونفاه إلى بلاد الغال حيث انتحر هناك إذ قذف بنفسه إلى أسفل من فوق قمة جبل تحت تأثير البؤس واليأس والندم ولذعة الضمير، أما زوجته فقد انضمت في روما إلى كنيسة المسيح، وأضحت واحدة من القديسين وأهل بيت الله. أي كلوديا بروكولا! أي أيتها المرأة النبيلة! أكاد أرى الدموع في عينيك من وراء القرون الطوال التي تفصلها عنك، لأني رأيتها في قديسات كثيرات مثلك حوالي، في أولئك اللواتي كان أزواجهن لهن بمثابة الحمل والشوكة والصليب، لكم جاهدن بدموع في سبيل خلاصهم!! ولكم صحن مراراً في روح بولس حين قال: «أقول الصديق في المسيح. لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع، فإني كنت أود أن أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد» ولما يئسن رحلن عن هذا العالم كسيرات القلب حزينات يذكر لهن الله والعالم أنبل الجهاد وأروع الدموع. ما كنت يا بروكولا تودين أبدًا أن ترقي إلى السماء بمفردك، كنت تودين أن تصبحي زوجك معك.. على أنك وإن كنت وقد فشلت معه فلن ينسى الله والعالم دموعك النبيلة، وسيذكر التاريخ لك أنك نجحت، ونجحت نجاحًا كبيرًا... نجحت مع نفسك، ونجحت مع نفسك، ونجحت مع المسيح، ونجحت معنا نحن الذين ما نزال إلى اليوم نقرأ قصتك بكل شغف وتقدير وإعجاب وحماس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق